التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦١
-يونس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: الضمير في { منه } يعود على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره؛ لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: وما تتلو شيئاً من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح؛ لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء. قاله ابن جزي. قلت: والأحسن أن يعود على الله تعالى؛ لتقدم ذكره قبل، ومن قرأ: { ولا أصغر }، { ولا أكبر } بالفتح فعطف على { مثقال } ممنوع من الصرف، أو مبني مع "لا"، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه، أو مبتدأ، و { إلا في كتاب }: خبر.
يقول الحق جل جلاله: { وما تكون في شأنٍ } أي: أمر من الأمور، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها. { ولا تعملون من عمل }، ومعنى الآية: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، { وما تتلو منه من قرآنٍ } أي: وما تتلو شيئاً من القرآن، أو وما تتلو من الله من قرآن، أي: تأخذه عنه. { ولا تعملون من عملٍ } أي عمل كان، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر الحق تعالى، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم، وذكر حيث عمم ما يتناول الجليل والحقير، أي: لا تعلمون شيئاً { إلا كنا عليكم شهوداً }: رقباء مطلعين عليه ظاهراً وباطناً، { إذ تُفيضون فيه }: حين تخوضون فيه وتندفعون إليه، يقال: أفاض الرجل في الأمر: إذا أخذ فيه بجد واندفع إليه، ومنه:
{ { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } [البقرة: 198]، { وما يَعْزُبُ عن ربك } أي: ما يغيب عنه { مثقال ذرةٍ }: ما يوازن نملة، { في الأرض ولا في السماء } والمراد: لا يغيب عنه شيء في الوجود بأسره، وخصهما لأن العامة لا تعرف غيرهما. قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ قدَّم هنا الأرض بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب: أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. هـ. { ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين } أي: اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه.
الإشارة: هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام: مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص.
فأما مراقبة الظواهر: فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية:
"إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟" .
وقال ـ عليه الصلاة والسلامـ: "أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان" أو كما قال صلى الله عليه وسلم: ورُوي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرَّ براعي غنم، فقال له: أعطنا شاة من غنمك، فقال له: ليست لي. فقال له: لصاحبها أكلها الذئب، فقال له الراعي: وأين الله؟!. ورُويَ أن رجلاً خلا بجارية فراودها على المعصية، وقال لها: لا ترانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مُكوكُبها؟.
وأما مراقبة القلوب فهي: تحقيق العبد أن الله مطلع على قلبه، فيستحي منه أن يجول فيما لا يعني، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدي، أو يهم بسوء أدب؛ فإنْ جال في ذلك استغفر وتاب.
وأما مراقبة السرائر فهي: كشف الحجاب عن الروح، حتى ترى الله أقرب إليها من كل شيء، فتستحي أن تجول فيما سواه من المحسوسات، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقاً، وقد تقدم في أول سورة النساء بعض الكلام على المراقبة، فمن لم يُحْكِم أمر المراقبة، لم يذق أسرار المشاهدة.
فالمراقبة مفتاح المشاهدة، والمشاهدة مفتاح المعرفة، والمعرفة هي الولاية، التي أشار إليها بقوله: { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }.