التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
١١٦
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
١١٧
-هود

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (لولا): تحضيضة، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف، كقوله: { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } و"إلا قليلاً" منقطع، ولا يصح اتصاله، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي: ما كان في القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال: فلان من بقية القوم، أي: خيارهم، وإنما قيل فيه "بقية"؛ لأن الشرائع والدول تقوى أولاً ثم تضعف. فمن ثبت في وقت الضعف على ما كان في أوله، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية. وقوله: "بظلم": حال من "ربك"؛ أي: ما كان ربك ليهلك القرى ظالماً لهم، أو متعلق بيُهلك.
يقول الحق جل جلاله: { فلولا } فهلا { كان من القرون من قبلكم }؛ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم، { اُولوا بقية } من الرأي، والعقل يُنكرون عليهم، أي: فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت، { ينهون عن الفساد في الأرض }، لكن قليلاً ممن أنجينا منهم كانوا كذلك، فأنكروا على أهل الفساد، واعتزلوهم في دينهم؛ فأنجيناهم. وفي هذا تحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وأنه سبب النجاة في الدارين. { واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه }: ما أنعموا فيه من الشهوات، واهتموا بتحصيل أسبابها، وأعرضوا عما وراء ذلك، { وكانوا مجرمين } كافرين. قال البيضاوي: كأنه أراد أن يُبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية: وهو: فشو الظلم فيهم، واتباع الهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر. هـ.
{ وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم } أي: متلبساً بظلم، { وأهلُها مصلحون }، فيعذبهم بلا جرم، أي: ما كان ليعذبهم ظالماً لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فساداً وبغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه. ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ، عند تزاحم الحقوق، وحقوقَ العباد، وقال بعضهم: [الذنوب ثلاثة: ذنب لا يغفره الله، وهو الشرك، وذنب لا يعبأ الله به، وهو ما كان بينه وبين عباده، وذنب لا يتركه الله، وهو حقوق عباده]. وقالوا: قد يبقى المُلك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
الإشارة: أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض هم: أهل النور المخزون المستودع في قلوبهم من نور الحق، إذا قابلوا منكراً دمغوه بالحال أو المقال، وإذا قابلوا فساداً أصلحوه، وإذا قابلوا فتنة أطفؤوها. وإذا قابلوا بدعة أخمدوها، واجهوا ضالاً أرشده، أو غافلاً ذكروه، أو طالباً للوصول وصلوه، يمشون في الأرض بالنصيحة، لا يخافون في الله لومة لائم. أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأُقسمن لكم: إنَّ أحَبَّ عباد اللَّهِ إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة" أما كونهم يحببون الله إلى عباده، فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال، فقال: سألتَ عن دياجي الظلام؛ لأَكشفُ لك عنهم، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم، تعظيماً لربهم؛ لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله ـ تعالى ـ النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم من مخافته، وطهَّر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حُللاً من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي متعلقة بمواصلته، فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤية، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم: إن أتاكم عليلٌ مَنْ فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو من آمن مني فحذِّروه، أو راغب في مواصلتي فمنُّوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فرجّوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو محب لي فواصلوه، أو معظم لقدرتي فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. هـ.
وهذا بقدر الله ومشيئته، كما قال تعالى: { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً }.