التفاسير

< >
عرض

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦
-هود

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { وما من دابةٍ في الأرض } أي: كل ما يدب عليها؛ عاقلاً أو غيره، { إلا على الله رزقُها }؛ غذاؤها ومعاشها؛ لتكلفه إياه بذلك؛ تفضلاً وإحساناً. وإنما أتى بعلى التي تقتضي الوجوب؛ تحقيقاً لوصوله، وتهييجاً على التوكل وقطع الوساوس فيه، { ويعلمُ مستقرها ومستودعها }؛ أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. أو: مستقرها في الأرض بعد وجودها، ومستودعها: موادها قبل إيجادها. أو بالعكس: مستقرها: موادها في العلم قبل الظهور، ومستودعها إقامتها في الدنيا بعد الوجود. { كلٌّ } واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها { في كتاب مبين }؛ مذكور في اللوح المحفوظ، أو في العلم القديم المبين للأشياء، قال البيضاوي: وكأنه أريد بالآية كونه عالماً بالمعلومات كلها، وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها، تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. هـ.
الإشارة: هم الرزق، وخوف الخلق، من أمراض القلوب، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص؛ أعني: الرسوخ في الشهود والعيان. وإنما يضر العبدَ ما كان ساكناً، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب، فلا تضر؛ لأن الإنسان خلق ضعيفاً.
واعلم ان الرزق على قسمين: رزق الأرواح، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوي، وهو: قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسي، وهو: الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معاً، وأمر بالتسبب فيهما، قياماً برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة، والتسبب شريعة، فالعامة اشتغلوا بالتسبب في الرزق الحسي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي، ولا عرفوه؛ من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب في الرزق المعنوي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق الحسي من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسي لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون في الرزق الحسي والمعنوي، وليس هم مع إرادتهم في واحد منهما، وإنما هم أبداً مع إرادة مولاهم راتِعين أبداً، حيث دفعتهم إرادة سيدهم في الحسي أو في المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره، كما قال القائل:

آرَانِي كالآلات وَهو مُحَرَّكي أَنَا قَلَمٌ والاقتِدارُ أصَابِعُ

العامة قد حُجبوا عن الله بإرادتهم للرزق الحسي، حيث صار الرزق الحسي هو حظ النفوس. صاروا مع حظ نفوسهم لا غير، والخاصة وجدوا الله في طلبهم للرزق المعنوي، لأنه حق الله، لا حظ للنفس فيه، لأجل ذلك لمّا كانوا لله كان الله لهم. وخاصة الخاصة ليس هم مع إرادتهم في شيء، بل هُم بالله في الأحوال كلها لا بنفوسهم. قد انمحت إرادتهم في إرادة الله، فصارت إرادتهم إرادة الله، وفعلهم فعله. وهذا المقام يقال له: التمكين بالتلوين. هـ. قاله شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه في كتابه، نفعنا الله بهم جميعاً.
قوله تعالى: { ويعلم مُستقرها ومُستودعها } أي: يعلم مستقرها في العلم، ومستودعها في العمل، أو مستقرها في الحال، ومستودعها في المقام، أو مستقرها في الفناء، ومستودعها في البقاء، أو مستقرها في التلوين ومستودعها في التمكين، أو مستقرها في عالم الأشباح، ومستودعها في عالم الأرواح. وأنشدوا:

كُلُّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ أو تَرَاه فَهوَ للقبضتين يُشيرُ
ضع قميصي عن العيون ترى ما غاب عنك فقد أتاك البشير

فالمراد بالقبضتين: الحس والمعنى، وإن كانا في الأصل قبضة واحدة، لكن لما تجلت بالضدين سمَّاها قبضتين. فالحس رداء للمعاني. وسماه هنا قميصاً؛ لأنه يستر كالرداء، فإذا رفع القميص عن عُيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، وهذا معنى قوله: ضع قميصي عن العيون. إلخ... وَرَفْعُ حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها. والله تعالى أعلم.
ولما بيَّن كمال علمه ذكر كمال قدرته، فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ }.