التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠٩
حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١١٠
-يوسف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (نوحى): نعت لرجال، وكذا (من أهل القرى): نعت ثان، و(حتى): غاية لمحذوف، أي: وما أرسلنا إلا رجلاً يوحى إليهم فأوذوا مثلك، ودام عليهم، حتى إذا استيأسوا جاءهم نصرنا.
يقول الحق جل جلاله: { وما أرسلنا من قبلك } يا محمد { إلا رجالاً } بشراً لا ملائكة، وهو رد لقولهم:
{ { لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [فصلت: 14]، وقيل: معناه: نفي استنباء النساء. وصفة أولئك الرجال: { يوحَى إليهم } كما أوحي إليك، فتميزوا بالوحي عن غيرهم، وهم { من أهل القُرى }. وهم المدن والأمصار، والمداشر الكبار؛ لأنهم أحلم وأعلم، بخلاف أهل العمود فإنهم أهل جفاء وجهالة. قال الحسن: (لم يبعث الله نبياً من أهل البادية، ولا من النساء ولا من الجن).
قال ابن عطية: والتَّبَدِّي مكروه إلا في الفتن، وحين يُفَرُّ بالدين، لحديث:
"يُوشِكُ أن يَكونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنما يَتْبَعُ بها سَعَفَ الجِبَالِ..." الحديث. وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع. هـ.
قلت: والفتنة تتنوع بتنوع المقامات؛ ففتنة أهل الظاهر: تعذر إقامة الشريعة لكثرة الهرج والفتن، وفتنة أهل الباطن: تعذر جمع القلب بالله؛ لكثرة الحس، وتعرض الشواغل والعلائق. فمن وجد ذلك في الحواضر فلينتقل إلى البوادي، إن وجد من يعينه على الدين. والغالب أن الحواضر في هذا الزمان يغلب فيها العوائد والشهوات، وتعتري فيها الشواغل والشواغب، بخلاف البادية. فإذا كان عليه الصلاة والسلام أذن لسَلَمة: خوف فتنة الظاهر، فأولى خوف فتنة الباطن؛ لأنه إذا فسد القلب فسد الجسد كله.
ثم قال ابن عطية: وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا تعرب في الإسلام" " .وقال: "مَن بَدَا جَفَا" . وعن معاذ بن جبل أنه قال: (الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الإِنْسَانِ، كذِئبِ الغَنَمِ؛ يَأخُذُ الشَّاةَ القَاصية؛ فإِيَّاكُمْ والشِّعاب، وَعَليكم بالمَسَاجِدِ، والجَمَاعَاتِ، والعَامةَ).
ثم قال: ويعترض هذا ببدو يعقوب، وينفصل عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن ذلك البدو لم يكن في أهل العمود، بل بَتَقَرِّ في منازل وربوع، والثاني: إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر، كما هي بنات الحواضر الصغار بَدْوٌ بالإضافة إلى الحواضر الكبار.هـ.
قلت: فالتعرب المنهي عنه هو اعتزال الرجل وحده في جبل أو شِعْبٍ، وإما إن تقرر في جماعة يقيمون الدين، ويجتمعون عليه، فليس بتعرب ولا بدو. ويدل عليه جواب ابن عطية الأول عن يعقوب عليه السلام. والحاصل: أن أهل القلوب بفتشون على مصالح قلوبهم، فأينما وجدوها فهي حاضرتهم. وقد ظهر في البوادي أكابر من الأولياء، ربما لم يظهروا في الحواضر. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى: { أفلم يسيروا } أي: كفار مكة، { في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم } من المكذبين لرسلهم: كيف هلكوا وتركوا آثارهم يشاهدونها خراباً دارسة، فيحذروا تكذيبك، ليؤمنوا ويتأهبوا للدار الآخرة؛ { ولَدَار الآخِرَةِ } أي: ولدار الحياة الآخرة { خير للذين اتقوا } الشرك والمعاصي، { أفلا تعقلون }، وتستعملون عقولكم لتعلموا أنها خير. أو: أفلا يعقلون الذين يسيرون في الأرض ليعلموا أن الدنيا فانية، والدار الآخرة خير؛ لأنها باقية.
فإن أبيتم وكذبتم نبيكم فقد كذب من قبلكم رسلهم، وآذوهم، وتأخر نصرهم، { حتى إذا استيأس الرسل } من النصر، أو من إيمان قومهم؛ لانهماكهم في الكفر، وتماديهم من غير وازع، { وظنوا } أي: تيقنوا { أنهم قد كذبوا } أي: أن قومهم كذبوهم فيئسوا من إيمانهم. أو: ظنوا أن من آمن بهم قد كذبوهم؛ لطول البلاء وتأخر النصر. وأما قراءة (كُذِبُوا)؛ بالتخفيف؛ فمعناه: وظنوا أنهم قد كذب عليهم في وعد النصر.. وأنكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذه الرواية، وقالت: معاذ الله؛ لم تكن الرسل تظن بربها ذلك. كما في البخاري.
وقد يجاب بأن ذلك كانت خواطر وهواجس من وسواس النفس، يمر ولا يثبت، وهو من طبع البشر، لا يدخل تحت التكليف. وسماه ظناً؛ مبالغة في طلب المراقبة، كما تقدم في قوله: { ولقد همت به وهم بها }. وقال ابن جزي، على هذه القراءة: الضميران يعودان على المرسل إليهم، أي: ظن الأتباع أن الرسل قد كذبوا عليهم في دعوى الرسالة، أو في مجيء النصر لما اشتد عليهم البلاء، وتأخر عنهم النصر.
فلما يئسوا { جاءهم نصرنا فنُجَّي من نشاء } نجاته: وهو: النبي والمؤمنون. وإنما لم يعينهم؛ للدلالة على أنهم الذين يستأهلون نجاتهم بالمشيئة القديمة، لا يشاركهم فيها غيرهم، { ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجرمين } إذا نزل بهم. وفيه بيان المستثنين بالمشيئة، كأنه قال: ولا نشاء نجاة المجرمين.
الإشارة: قد وجد كثير من الأولياء بالمدن والحواضر، وكثير منهم في القرى والمداشر. وفضل الله يؤتيه من يشاء، لا يختص بمكان ولا زمان، غير أن جلهم جمعوا بين علم المدن وتفرغ البوادي، يعني: جمعوا بين شريعة المدن وحقيقة البوادي؛ لأن أهل المدن شريعتهم قوية، وحقيقتهم ضعيفة. والبوادي بالعكس؛ لكثرة العلائق في المدن وخفتها في البوادي، والحقيقة تحتاج إلى تفرغ كبير وتفكر كثير، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: { وظنوا أنهم قد كذبوا } بالتخفيف، معناه: أنهم لم يقفوا مع ظاهر الوعد؛ لسعة علمهم؛ لأن ذلك الوعد قد يكون في علم الغيب متوقفاً على شروط خفية لا يعلمها ذلك النبي أو الولي، ليتحقق انفراده تعالى بالعلم الحقيقي، والقهرية الغالبة. فلذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم.
وقال الورتجبي: إنهم استغرقوا في قلْزُوم الأزلية، وغابوا تحت بحار الديمومية، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم في الحق. فلما لم يروه ناداهم لسان غيْره قهر القدم: أين أنتم؟ غبتم عنه وعن الحقيقة، فتطُلع أنوار الحقيقة عليهم، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر. وهذا دأب الحق مع الأنبياء والأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه، بل يفنوا به عن كل ماله إليهم. هـ.
قال المحشي الفاسي: وحاصل ما أشار إليه: أن قراءة التخفيف تشير إلى أخذهم عن الوقوف مع الوعد، والسكون إليه، غيبةً في الحق عن مقتضى وعده، لا تكذيباً لوعده، بل ذلك احوالٌ غالبة آخذة عن الصفة، غيبةً في الموصوف. وهذا حال الصوفي كما يعرف ذلك أهله. وهو صحيح في نفسه ولكنه بعيد عن مرمى الآية؛ فإن صاحب الغيبة لا يوصف بظن خلاف الوعد، وإن كان غائباً عنه. وأقرب منه ما ذكره الترمذي الحكيم: من أن ذلك كان لظن فقد شرط في الموعود أوجب عدَم القطع لوقوع الوعد. والله أعلم.
وقد قال في الحِكم: "لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود، وإن تعين زمنه". يعني أنه قد يتخلف لفقد شرط؛ كما في قضية الجرْو الذي تخلف جبريل من أجله. أو لعدم تحقيق الوقت؛ لأن تعيينه كان من قبل أنفسهم من غير وحي، فلما تأخر ظنوا ذلك بأنفسهم. والله تعالى أعلم. هـ.
والحاصل: أن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لما تأخر عنهم النصر هجس في أنفسهم تخلف الوعد؛ خوفاً أن يكون متوقفاً على شرط لم يعلموه، أو جعلوا له وقتاً فهموه من أمارات، فلما تأخر عنه ظنوا أنه قد تخلف. وأما قضية الجرو الذي أشار إليهم: فكان جبريل عليه السلام وعد نبينا صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في وقت مخصوص، فدخل جرو البيت، فلم ينزل في ذلك الوقت، فلما نزل بعد ذلك، قال:
"إنما تَخلَّفْنَا عن الوقت؛ لأَنَّ الملائكة لا تَدخلُ بَيْتاً فيه كَلْبٌ" . كما في الصحيح.
ثم قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }.