التفاسير

< >
عرض

لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
١٤
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
١٥
-الرعد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { له دعوةُ الحق }؛ لأنه الذي يحق أن يُدعى فيجيب، دون غيره؛ فإنما له الدعاء الباطل؛ لأنه يُدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو: له دعوة الحق، وهي كلمة التوحيد؛ "لا إله إلا الله، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح؛ لمناسبة قوله: { والذين يَدْعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء }، أي: والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، مما طلبوا، أو: والمشركون الذين يدعون أصناماً من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء، فحذف المفعول؛ للدلالة عليه، فلا يستجيبون لهم { إلا كباسط كَفَّيْه إلى الماء }؛ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه، { ليبلغ فاهُ }؛ أي: يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه { وما هو ببالغه } أي: ليس الماء ببالغ فاه، لأنه جماد لا يشعر بدعائه، ولا يقدر على إجابته من حيث هو، شَبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه، ولا يبلغ فاه أبداً؛ لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها؛ لأنها خشب وأحجار. { وما دعاءُ الكافرين } للأصنام، { إلا في ضلال } وخسران وضياع.
ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب، فقال: { ولله يسجدُ من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } يحتمل أن يكون السجود حقيقة، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعاً في الشدة والرخاء يسجدون كرهاً في الشدة والضرورة. أو يكون مجازاً؛ وهو: انقيادهم لما أراد منهم، شاؤوا أو كرهوا. { و } تسجد أيضاً { ظلالُهم }؛ بانقيادها لله تعالى في طولها وقصرها، وميلها من جانب إلى جانب، { بالغدو والآصالِ }، أي: طرفَيْ النهار. وخُصَّ هذان الوقتان ـ وإن كان سجودهما دائماً ـ؛ لأن الظلال إنما تَعْظُم وتكبر فيهما. وقال الواحدي: كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد لله تعالى، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. هـ.
وقال القشيري: ذلك سجود شهادة، لا سجود عبادة، فإن امتنع من إقامة الشهادة قوم قالةً فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة، فكل مخلوقٍ من عين وأثر، حجر ومدر أو غير ذلك؛ فمن حيث البرهان لله ساجد، ومن حيث البيان للواحد شاهد. هـ.
وقال أبو حيان: عن الفراء: الظل في الأصل مصدر، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم طولُه بسبب انخفاض الشمس، وقصره بسبب ارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى في طوله وميله من جانب. ثم قال: والحاصل أنها جارية على مقتضى إرادته تعالى ومشيئته، من الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. هـ.
وقيل: لا يعلم تسبيح الجماد والنبات والحيوان البهيمي وسجودها؛ إلا مَنْ كاشفه الله تعالى بحقيقة ذلك من نبي أو ملك أو صدِّيق. واما حمدها لله تعالى وتسبيحها بلسان الحال فيعلمه العلماء. قاله المحشي الفاسي.
الإشارة: كل من تعلق في نوائبه بغير الله، أو ركن في حوائجه إلى غير مولاه، فهو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وليس بواصل إليه، ولا ببالغ قصده ومناه، بل دعاؤه في تلف وخسران، وجزاؤه الخيبة والحرمان. فالواجب على العبد أن يَقْصر حوائجه على مولاه، وينقاد إليه بكليته في حال الطوع والإكراه. إما أن ينقاد إليه بالإحسان، أو بسلاسل الامتحان. "عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقُون إلى الجَنَّةِ بالسَّلاسِل".
ثم ذكر الحقيق بالدعوة والعبادة