التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ
٢٤
تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٥
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
٢٦
يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
-إبراهيم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (كلمة طيبة): يجوز أن يكون مفعولاً بمحذوف، أي: جعل كلمة، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل، وأن تكون (كلمة): بدلاً من (مَثَلاً)، و(شجرة): صفة لها، أو خبر عن مضمر، أي: هي شجرة.
يقول الحق جل جلاله: { ألم تَرَ } يا محمد، أو أيها السامع، { كيف ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً } لأهل "لا إله إلا الله"، وهم: أهل التوحيد، الذين رسخ التوحيد في قلوبهم، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها، ورسخ معناها في قلوبهم { كشجرةٍ طيبةٍ }: كالنخلة مثلاً، { أصلُها ثابت } في الأرض، غائص بعروقه فيها، { وفروعها في السماء }؛ أي: أعلاها. أي: يريد الجنس، أي: فروعها وأفنانها في السماء، { تُؤتي أًكُلُها }: تُعطى ما يؤكل من ثمرها { كل حين } وقَّته الله لإثمارها، فقيل: سنة، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء، واستدلوا بها على من حلف لا يُكلم أخاه حيناً لزمه سنة، وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وغيرهما: { كل حين }؛ أي: غدوة وعشية، ومتى أريد جناها، قلت: وهذا هو الظاهر.
واخْتُلف في هذه الشجرة الطيبة، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص، فقيل: غير معينة، وقيل: النخلة، وبه قال الجمهور. قال الشطيبي: وقيل: جوزة الهند، فإنها ثابتة الأصل، متصلة النفع، يكون طعمها أولاً لبناً، ثم عسلاً، ثم تنعقد طعاماً، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي، ثم يكون كالخل، ثم كالخمر، ثم كالزيت، كل هذا قبل عقد الطعم، وأما النخلة فهي: ستة أشهر طلع رخص، وستة أشهر رطب طيب، فنفعه متصل. وقال ابو حنيفة: إنه ببلاد اليمن نوعٌ من التمر، يقال له: الباهين، يطعم السنة كلها. هـ. قلت: وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند، ووصفها كما قال الشطيبي، وقوله: "في النخلة ستة أشهر..." الخ، فيه نظر، وصوابه: ثلاثة، فإن المعاينة ترده.
والمشبه بهذه الشجرة: المؤمن الكامل الدائم نفعه، المتصل علمه، أوقاته معمورة بذكر الله، أو تذكير عباد الله، وحركاته وسكناته في طاعة الله، حيث أراد بها وجه الله، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.
ثم قال تعالى: { ويضربُ الله الأمثال للناس لَعلهم يتذكرون }؛ لأن في ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير؛ فإنه تصوير للمعاني وتقريبها من الحس، لتفهم سريعاً.
ثم ذكر ضدها فقال: { وَمَثَلُ كلمة خبيثة }؛ كلمة الكفر { كشجرة } كمثل شجرة؛ { خبيثة }؛ كالحنظلة مثلاً، { اجْتُثتْ }: استؤصلت، وأُخذت جثتها، وقُلعت { من فوق الأرض }، أي: قطعت من فوق الأرض؛ لأن عروقها قريبة منه، { ما لها من قرارٍ } استقرار. وهذا في مقابلة قوله: { أصلها ثابت }. قال البيضاوي: واختُلف في الكلمة والشجرة؛ ففُسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد ـ أي: (لا إله إلا الله)، ودعوة الإسلام والقرآن، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى، والدعاء إلى الكفر، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك، فالكلمة الطيبة: ما أعرب عن حق، أو دعا الى صلاح، والكلمة الخبيثة: ما كان على خلاف ذلك، وفُسرت الشجرة الطيبة بالنخلة، ورُوي ذلك، مرفوعاً، وبشجرة في الجنة، والخبيثة بالحنظلة، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك. هـ.
{ يُثبت اللهُ الذين آمنوا بالقول الثابت } وهو: لا إله إلا الله، أو كل ما يثبت في القلب، ويتمكن فيه من الحق، بالحجة الواضحة، { في الحياة الدنيا } مدة حياتهم، فلا يزالون إذا افتتنوا في حياتهم، أو عند موتهم، وهي حسن الخاتمة، { وفي الآخرة } عند السؤال، فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في القبر، وعند الموقف، فلا تدهشهم أهوال القيامة. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال:
"ثُمَّ تُعَادُ رُوحه في جَسَدِهِ، فَيَأتيهِ مَلَكانِ، فيُجْلِسَانهِ فِي قَبْرهِ، ويَقُولاَنِ لَه: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ نَبِيكَ؟ فيقول: رَبي الله، ودِيني الإسْلاَمُ، ونَبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مُنَادٍ من السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبْدِي " . فذلك قوله تعالى: { يُثَبِتُ اللهُ الذينَ آَمنُوا بِالقَولِ الثابتِ }. قلت: والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي: هو أشبه شيء بحال النائم.
{ ويُضِلُّ اللهُ الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد، فلا يهتدون إلى الحق، ولا يثبتون في مواقف الفتن. { ويفعلُ الله ما يشاء }؛ من تثبيت بعض، وإضلال آخرين، من غير اعتراض عليه، ولا تعقيب لحكمه.
الإشارة: الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد، والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو: التوحيد الثابت في القلب، وفروعها: الفرائض والواجبات، وأغصانها: السنن المؤكدات، وأوراقها: المندوبات والمستحبات، وأزهارها: الأحوال والمقامات، وأذواقها: الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها: العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذوقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّاره، تورق ولا ثمر، فهي شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى:
{ { وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35]. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال من أنكر هذه النعمة