التفاسير

< >
عرض

وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ
٤٦
فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤٧
يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٤٩
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ
٥٠
لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٥١
هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٥٢
-إبراهيم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (وإن كان مكرُهم)؛ "إن" نافية، واللام للجحود، ومن قرأ "لّتزول"؛ بفتح اللام، فإن مخففة، واللام فارقة؛ و (يوم تُبدل): بدل من (يوم يأتيهم)، أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر، أو (بمخلف وعده). ولا يجوز ان ينتصب بمخلف؛ لأن ما قبل "إن" لا يعمل فيما بعدها. و(السماوات): عطف على (الأرض)، أي: وتبدل السماوات.
يقول الحق جل جلاله: { وقد مكروا } بك يا محمد { مكرَهُم } الكلي، واستفرغوا جهدهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، { وعند الله مكرُهُم } اي: مكتوب عنده فعلهم، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به جزاء لمكرهم، وإبطالاً له، { وإن كان مكرُهُم } في العظم والشدة، { لِتزولَ منه الجبال } الثوابت لو زالت؛ تقديراً، أو ما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال، أي: الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم؛ لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة، أو: وإن مكرهم لَتزولُ منه الجبال من شدته، ولكن الله عصم ووقى. وقيل: الآية متصلة بما قبلها، أي وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ومكروا مكرهم في إبطال الحق.
{ فلا تحسبن اللهَ مخلفَ وعدِهِ رسلَه }، يعني: وعد النصر على الأعداء، وقدَّم المفعول الثاني، والأصل: مخلف رسله وعده، فقدَّم الوعد؛ ليُعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال: { رسله }؛ ليعلم أنه لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدَّم الوعد أولاً بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. { إن الله عزيز }: غالب لا يماكر، قادر لا يدافع، { ذو انتقام } لأوليائه من أعدائه.
يظهر ذلك { يوم تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ }، أ اذكر { يوم تبدل الأرض غير الأرض }، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء، كقُرْصَة النقِيّ، كما في الصحيح. { و } تبدل { السماوات } بأن تنشق وتُطوى كطي السجل للكتب، ويبقى العرش بارزاً، وهو سماوات الجنة.
قال البيضاوي: والتبديل يكون في الذات، كقوله: بدلت الدراهم بالدنانير، وعليه قوله: { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56]، وفي الصفة، كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله
: { { يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70]. والآية تحتملها، فعن علي رضي الله عنه: تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: هي تلك الأرض، وإنما تغير صفاتها، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِِ فَتبْسَط، وتُمَدّ مد الأديم العكَاظيّ، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا" .
قال ابن عطية: وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عَفراءَ لم يُعْصَ اللهُ فيها، ولا سُفِكَ فيها دم، وليس فيها مَعْلم لأحد. ورُوي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المُؤْمِنُ في وَقْتِ التبديلِ في ظل العرْشِ". ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناسُ، وقتَ التبديل، على الصِّرَاط" . ورُوي أنه قال: "الناس حينئذٍ أضْيَافُ الله؛ فلا يُعجزهم ما" .
وفي سراج المريدين لابن العربي: أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة؛ ويخلقها يوم القيامة مستوية، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، متماثلة بيضاء كخبرة النقى، كما في الصحيح، وأما تبديل السماوات فليس في كيفيتها حديث، وإنما هو مجهول. وفي حديث مسلم: "أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال: هم على الصراط" . قال: يحتمل أنه الصراط المعروف، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره، تستقر الأقدام عليه، وكأنه الأظهر؛ للحديث الآخر. وقد سألته عائشة ـ وضي الله عنها ـ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجسْر" . والجسر: الصراط. هـ.
أما تبديل الأرض: فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر، فلا يقع البعث والحشر، إلا على الأرض المبدلة؛ كقوله
: { { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ } [الكهف: 47]، وقوله: { { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } [طه: 105 ـ 106].. ثم قال: { { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ } [طه: 108]. وقوله: { { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [الواقعة: 1]، ثم قال: { { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } [الواقعة: 4 ـ 5] إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذٍ أضياف الله، أو في ظل العرش، أو دون الجسر، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس في المحشر، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلاً. والله تعالى أعلم.
{ وبرزوا للهِ الواحدِ القهار }، أي: وبرزوا من أجداثهم؛ لمحاسبة الواحد القهار، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين؛ للدلالة على أنه في غاية الصعوبة، كقوله
: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره، ولا مستجار، { وترى المجرمين يومئذٍ مُقَرَّنين }: قرن بعضهم إلى بعض { في الأصفاد }: في القيود، أو الأغلال، كل واحد قُرن مع صاحبه، على حسب مشاركتهم في العقائد والأعمال، كقوله { { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير: 7]: أو قُرنوا مع الشياطين، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله: { في الأصفاد }: متعلق بمقرنين، أو حال من ضميره. والصفد: القيد أو الغل.
{ سرابيلُهُم }: قُمصانُهم، والسربال: القميص، { من قَطرانٍ }، وهو الذي يهنأ به الإبل، أي: تدهن به. وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جُعِل قَميصَ أهل النار. قال البيضاوي: وهو أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يُطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. على أنَّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. هـ.
{ وتغشى وجوهَهُم النار }، أي: تكسوها وتأكلها؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق، ولم يخضعوا بها إلى الخالق، كما تطلع على أفئدتهم؛ لأنها فارغة من المعرفة والنور، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله:
{ { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [الزمر: 24]، وقوله تعالى: { { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [القمر: 48].
فعل ذلك بهم؛ { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من الإجرام، أو ما كسبت مطلقاً؛ لأنه إذا بيَّن أن المجرمين معاقبون لإجرامهم؛ علم أن المطيعين يُثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. { إن الله سريع الحساب }، فيحاسب الناس في ساعة واحدة؛ لأنه لا يشغله حسابٌ عن حساب، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه، يُحاسب في وقتِ حسابِ الآخر؛ لأن ذلك وقت خرق العوائد.
{ هذا } القرآن، أو ما فيه من الوعظ والتذكير، أو ما وصفه من قوله
{ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً... } [إبراهيم: 42] إلخ، { بلاغ للناس }؛ أي: كفاية لهم عن غيره في الوعظ وبيان الأحكام، يقال: أعطيته من المال ما فيه بلاغ له، أي: كفاية، أو بلاغ؛ أي: تبليغ لهم، كقوله: { { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } } [الشورى: 48]، { { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [النور: 54].وقوله: { وليُنذروا به }: عطف على محذوف، أي: ليُنصحوا به، ولينذروا به، أو متعلق بمحذوف، أي: ولينذروا به أنزلناه، { وليعلموا أنما هو إله واحد } بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى، أو المنبهة على ما يدل عليه. { وليذَّكَّر } أي: ليتعظ به { أولو الألباب } أي: القلوب الصافية بالتدبر في أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه، فيرتدعوا عما يُرديهم، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتاب: تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، وإصلاح القوة العملية التي هي التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي. الإشارة: قد مكر أهلُ الغفلة بالأولياء، قديماً وحديثاً، واحتالوا على إطفاء نورهم، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم؛ { إن الله عزيز ذو انتقام } فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسوم والأشكال، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات؛ فتنقلب كلها نوراً مجموعاً ببحر الأنوار، وبمحيطات أفلاك الأسرار، فتذهب ظلمة الأكوان بتجلي نور المكون { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النور: 35]. وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.
وقال الورتجبي: يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر، تبدل من هذه الأوصاف، وظلمة الخلقية، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها، وأنها صارت مَشْرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته، بوصف الجبارية والقهارية بقوله
: { { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [الزمر: 69] وهناك يا أخي يدخل الوجود تحت أذيال العدم؛ من استيلاء قهر أنوار القدم، قال: { { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]. وقيل: فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال: عادت إلى مصادرها. وقال: متى كانوا شيئاً حتى صاروا لا شيء؟! لأنهم أقل من البهاء في الهواء في جنب الحق. هـ.
وترى المجرمين، وهم الغافلون، مقرنين في قيود الأوهام، والشكوك، مسجونين في محيطات الأكوان، سرابيلهم ظلمة الغفلة، تغشى وجوههم نارُ القطيعة، لا تظهر عليها بهجة المحبين، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به وبال الغفلة والحجاب، وليتحقق أولو الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.