التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
١٠
يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١١
وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٢
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٣
وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٤
وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥
وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
١٦
-النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { لكم منه شراب }: يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع خبر { شراب }، أو صفة لماء؛ و { مواخر }: جمع ماخرة، يقال: مخرت السفينة الماء مخرًا: شقّته، وقيل: المخر: صوت جَرْىِ الفلك في البحر من هبوب الريح. وقيل: معناه: تجيء وتذهب بريح واحدة. و { لتبتغوا }: عطف على "لتأكلوا"، و { أن تميد }: مفعول من أجله، أي: كراهة أن تميد بكم. و { أنهارًا وسُبلاً }: مفعول بمحذوف، أي: وخلق أو وجعل أنهارًا، وقيل: معطوف على "رواسي"؛ لأن ألقى، فيه معنى الجعل، و { علامات }: عطف على { أنهارًا وسبلاً }، أو نصب على المصدر، أي: ألقى ذلك؛ لعلكم تعتبرون، وعلامات دالة على وحدانيته.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { هو الذي أنزل من السماء } أي: السحاب، أو جانب السماء، { ماء }: مطراً { لكم منه شراب } تشربونه بلا واسطة، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار؛ لأنه يُحبس فيها، ثم يشرب منها، لقوله:
{ { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ } [الزُّمَر: 21]، وقوله: { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ } [المؤمنون: 18]، { ومنه شجرٌ } أي: ومنه يكون شجر، يعني: الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل: كل ما نبت على الأرض فهو شجر، { فيه تُسِيمُون }: ترعون مواشيكم، من أسام الماشية: رعاها، وأصلها: السومة، التي هي العلامة؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات.
{ يُنبتُ لكم به الرزعَ } وقرأ أبو بكر بالنون؛ على التفخيم، { والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات } أي: ومن بعض كل الثمرات؛ إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي: ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه؛ لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية - يعني اللحم -، ومن هذا: تقديم الزرع، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. هـ.
{ إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون }، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها، فينشق أعلاها، ويخرج منه ساق الشجر، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع، مع اتحاد المواد، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد، ولعل وصل الآية به؛ لذلك. قاله البيضاوي باختصار.
{ وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ }؛ بأن هيأها لمنافعكم، { مسخراتٍ بأمره }، أي: مذللات لما يريد منها، وهو حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخرات لله، منقادة لحكمه، أو لما خلقن له، { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } أي: لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات، وإنما جمع هنا، دون ما قبله وما بعده؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر، وهو متحد، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض، وهو متحد في الجنس والهيئة، بخلاف العوالم العلوية، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة. وقال البيضاوي: جمع الآية وذكر العقل؛ لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات. هـ.
{ وما ذرأ } أي: وسخر لكم ما ذرأ، فهو عطف على الليل، أي: سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات، { مختلفاً ألوانه }؛ أبيض وأسود، أحمر وأصفر، مع اتحاد المادة، فالماء واحد والزهر ألوان، { إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون }؛ يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع، والهيئات والمناظر، ليس إلا بصنع صانع حكيم.
{ وهو الذي سخَّر البحرَ }: ذللـه بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به؛ بالركوب فيه، والاصطياد، والغوص، { لتأكلوا منه لحمًا طريًّا } هو السمك، ووصفة بالطراوة؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله طريًّا، ولإظهار قدرته في خلقه؛ عذبًا طريًّا في ماء زُعاق أُجاج، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط؛ فالحنث يقع بأدنى شيء، بخلاف البِر، لا يقع إلا بأتم الأشياء.
{ وتستخرجوا منه حِلْيةً }؛ كاللؤلؤ والمرجان، { تلْبسونها }؛ يلبسها نساؤكم، وأسند اللباس إليهم؛ لأن لباس النساء تزين للرجال، فكأنه مقصودٌ لهم، { وترى الفلك }: السفن { مواخر فيه }؛ جواري فيه تمخر الماء، أي: تشقه، أو تُصوت من هبوب الريح، { ولتبتغوا من فضله }: من سعة رزقه؛ بركوبه للتجارة، أو: وترى الفلك جواري فيه؛ لتركبوها، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية: فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. هـ. { ولعلكم تشكرون } أي: تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر؛ لأنه أقوى في باب الإنعام؛ من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.
{ وألقى في الأرض رواسي }؛ جبالاً رواسي أرست الأرض؛ كراهة { أن تميد بكم }؛ تميل وتضطرب؛ لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها؛ بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل: لما خلق الله الأرض جعلت تمور - أي: تتحرك - فقالت الملائكة: ما يستقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال. { وأنهارًا } أي: وجعل فيها أنهارًا تطرد؛ لسقي الناس والبهائم، وسائر المنافع، وذكره بعد الجبال؛ لأن الغالب انفجارها منها، { وسُبلاً } أي: وجعل فيها طُرقًا { لعلكم تهتدون } لمقاصدكم، أو لمعرفة ربكم، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة، على صانعها.
{ و } جعل فيها { علاماتٍ }: معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق؛ من الجبال، والمناهل، والرياح، وغير ذلك، { وبالنجم هم يهتدون } إلى الطرق بالليل، في البراري والبحار، والمراد بالنجم: الجنس، بدليل قراءة: "وبالنُّجُمِ"؛ بضمتين؛ على الجمع. وقيل: المراد: الثريا، والفرقدان وبنات نعش، والجَدْي. والضمير لقريش؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير؛ للتخصيص، كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا، هؤلاء خصوصًا يهتدون، يعني: قريشًا، فالاعتبار بذلك، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. هـ. وأصله للزمخشري.
الإشارة: هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء، أي: علمًا لدنيًا تحيا به القلوب، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب، خمرة تحيا بها الأرواح، وتغيب عن حضرة الأشباح، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل، تثمر بالأذواق، فيه تسيمون، أي: في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم، فمن وقف مع حلاوة العمل، أو المقامات أو الكرامات، بقي محجوبًا عن ربه، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله:

وَراعِها، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم

وقال في الحكم: "ربما وقفت القلوب مع الأنوار، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار".
وقال الششتري:

وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا

يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض، ونهار البسط؛ لتسكنوا فيه؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا، ولتبتغوا من فضله؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء، فتشرق حينئذ شمس العرفان، ويستنير قمر الإيمان، وتطلع نجوم العلم، كل مسخر في محله، لا يستتر أحد بنور غيره، وهذا مقام أهل التمكين، يستعملون كل شيء في محله. وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة، وهو الذي سخر بحر المعاني؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك، أي: سفن الفكرة، فيه مواخر؛ عائمة في بحر الوحدة، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت؛ لتبتغوا من فضله، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته، ولعلكم تشكرون، فتقيدوا هذه النعم الجسام؛ لئلا تزول. وألقى في أرض البشرية جبال العقول؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام، ثم إلى قمر توحيد البرهان، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.
ولما ذكر دلائل التوحيد أنكره من اشرك بعد هذا البيان.
ثم ذكر بقية التجليات، فقال: { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ... }