التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣
خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٧
وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨
وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
-النحل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { والأنعام }: منصوب بمحذوف، يفسره: { خَلَقَها }، أو معطوف على "الإنسان" و { خلقها لكم }: بيان لما خُلقتُ لأجله، وما بعده تفصيل له. و { منها تأكلون }: إنما قدَّم المعمول؛ للمحافظة على رؤوس الآي، أو: لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه. قاله البيضاوي. قلت: ولعله، عند مالك، للاختصاص، أي: منها تأكلون لا من غيرها؛ إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.
وقوله: { لكم }: يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. { إلا بشق }: فيه لغتان: الكسر والفتح، بمعنى التعب والكلفة، وقيل: المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه، أي: صَعُبَ، والمكسور بمعنى: النصف، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب. { والخيل }: عطف على "الأنعام". و { زينة }: مفعول من أجله، عطف على موضع "لتركبوها": أي: للركوب والزينة، أو مفعول مطلق، أي: لتتزينوا بها زينة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { خلق السماوات والأرض }: أوجدهما { بالحق } أي: ملتبسًا بالحق؛ لتدل على وحدانية الحق، وكمال قدرته وباهر حكمته، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص، وشكل بديع، وأوضاع مختلفة، وهيئات متعددة. أو: خلقهما بقضائه وتدبيره الحق، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير، ولذلك نزه نفسه بقوله: { تعالى عمّا يشركون }، كما نزه نفسه، ابتداءً، لَمَّا نفَى الاستعجال؛ لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم، وفي معناه: تنزيل الوحي على ما يشاء لا على ما يشاء غيره؛ لانفراده أيضًا في ملكه. وفي إبرازه ذلك، على ما يخالف آراء الخلق، أدل دليل على وحدانيته في ملكه، وإنما وضع كل شيء ودبره؛ دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.
ثم شفع بخلق الإنسان فقال: { خلق الإنسان } أي: جنسه { من نُطفة }: من ماء مهين يخرج من مكان مهين، { فإذا هو خصيم مبين }: مجادل، كثير الجدل والخصام، مبين لحجته، أو: خصيم: مكافح لخالقه، قائل: { مَن يحيي العظام وهي رميم }.
"رُوي أن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم، فقال: يا محمد، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ؟ فقال: نعم" . فنزلت. فعلى الأول: تكون الآية عامة لكل إنسان، وعلى الثاني: خاصة بالكافر. والأول أظهر.
ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد، فقال: { والأنعامَ } وهي: الإبل والبقر والغنم، { خلقها }: أوجدها { لكم فيها دِفءٌ }؛ ما يُدْفأُ به فيقي البرد، يعني: ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، { و } لكم فيها أيضًا { منافعُ } أُخر؛ كنسلها وظهورها. وإنما عبَّر بالمنافع؛ ليتناول عِوضها. { ومنها تأكلون } أي: تأكلون ما يؤكل منها؛ من اللحوم والشحوم والألبان. { ولكم فيها جَمَالٌ } أي: زينة وبهجة { حين تُريحون }؛ تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي، { وحين تسرحون }؛ تخرجونها إلى المرعى بالغداة؛ فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها. وقدَّم الإراحة؛ لأن الجمال فيها أظهر؛ لأنها تقبل ملأى البطون، حاملة الضروع، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
{ وتحمل أثقالكم }: أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها { إلى بلدٍ } بعيد، { لم تكونوا بالغيه } عليها، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم، { إلا بِشِقِّ الأنفس }؛ إلا بكلفة ومشقة فديحة، أو: إلا بذهاب شِقها، أي: نصف قوتها من التعب. { إن ربكم لرؤوف رحيم }؛ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل، والركوب عليها، وأنعم عليكم بالكل من لحومها وألبانها.
{ و } خلق لكم { الخيلَ والبغال والحميرَ لتركبوها }، { و } تتزينوا بها { زينةً }، أو للركوب والزينة. قال البيضاوي: وتغيير النظم - أي: حيث لم يقل: وللزينة -؛ لأن الزينة بفعل الخالق، والركوب من فعل المخلوق - أي: باعتبار الحكمة -، ولأن المقصود خلقها للركوب، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ. وقرئ بغير واو، فيحتمل أن يكون علة لركوبها، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير، أي: متزينين، أو متزينًا بها. واستُدِلَّ به على حرمة لحومها، ولا دليل فيه؛ إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه، غالبًا، ألا يقصد منه غيره أصلاً، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. هـ. { ويخلق ما لا تعلمون } مما لا يُحيط البشرُ بعلمها؛ من عجائب المخلوقات، وضروب المصنوعات، مما يؤكل ومما لا يؤكل، وما خلق في الجنة والنار، مما لا يخطر على قلب بشر.
{ وعلى الله قصدُ السبيل } أي: وعلى الله بيان السبيل القصد، أي: الطريق الموصل إلى المقصود. أو: على الله تقويم طريق الهدى؛ بنصب الأدلة وبعث الرسل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: السبيل القصد، أي: القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب؛ كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليه القصد، وقال: { ومنها جائرٌ } عن القصد، أو عن الله، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق، يُذكر ويؤنث، وأُنِّثَ هنا. وتغيير الأسلوب - أي: حيث لم يقل: قصد السبيل والجائر -؛ لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة، ولأن المقصود، بالأصالة، بيان سبيله، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. { ولو شاء لهداكم أجمعين } أي: ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.
الإشارة: هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي، وخلقت من أجله، السماوات تُظله، والأرض تُقله، والحيوانات تخدمه وتنفعه، يتصرف فيها؛ خليفة عن الله في ملكه. فالواجب عليه شكر هذه النعم، وألا يقف معها، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال:
"يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله" . والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص: ألا يقف مع حس أجرامها، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها؛ لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني، المحيط بالأواني، والمفني لها، بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن. وبالله التوفيق.
وقوله: { وعلى الله قصد السبيل }: اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح، وهو النعيم الأكبر؛ قال تعالى:
{ { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ } [التّوبَة: 72]. فالرضوان على قسمين: قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب، وهم أهل الشرائع، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب، وهم أهل الحقائق، وهم المقربون، نفعنا الله بهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
ثمَّ ذكر بقية التجليات فقال: { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ... }