التفاسير

< >
عرض

قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً
٤٢
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
٤٣
تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
٤٤
-الإسراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { قلْ } يا محمد: { لو كان معه } في الوجود { آلهةٌ } تستحق أن تُعبد، { كما تقولون } أيها المشركون، أو كما يقول المشركون أيها الرسول، { إِذًا لابتَغَوا }؛ لطلبوا { إلى ذي العرش سبيلاً }؛ طريقًا يقاتلونه. وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء. والمعنى: لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض. وهذا كقوله: { { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [المؤمنون: 91]. وقيل: لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة؛ لعلمهم بقدرته، وتحققهم بعجزهم، كقوله: { { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ } [الإسرَاء: 57]. ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال: { سبحانه }؛ تنزيهًا له { وتعالى }؛ ترافع { عمّا يقولون } من الشركاء، { عُلوًا }؛ تعاليًا { كبيرًا } لا غاية وراءه. كيف لا؛ وهو تعالى في أقصى غاية الوجود! وهو الوجوب الذاتي، وما يقولونه؛ من أنَّ له تعالى شركاء وأولادًا، في أبعد مراتب العدم، أعني: الامتناع؛ لأنه من خواص المحدثات الفانية.
{ يسبح له السماواتُ السبعُ } أي: تنزهه، { والأرضُ ومَن فيهن } كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد، { وإِنْ من شيء إِلا يُسبح بحمده }؛ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان، وتوابع الحدوث، بلسان الحال، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته. قاله البيضاوي. وظاهره: أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي، والراجح أنه مقالي. ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص، كما قال الجلال السيوطي، أي: تقول: سبحان الله وبحمده. بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله. وإلى هذا يرشد كلام أهل الكاشف، حتى ذكر الحاتمي: أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه. وورد في الحديث:
"ما اصطيد حوت في البحر، ولا طائر يطير، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى" . وفي الحديث أيضًا: "ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله، إلا يسبح الله بحمده، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم" .
ومذهب أهل السنة: عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة، فيصح الخشوع من الجماد، والخشية لله والتسبيح منه له. وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع: فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن يحمل قوله: { وإِن من شيء إِلا يُسبح بحمده } على ظاهره. هـ.
وقال ابن عطية: اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح؛ فقالت فرقة: هو تجوز، ومعناه: أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر. وقالت فرقة: قوله: { من شيء }: لفظه عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات الميتة. فمن هذا قول عكرمة: الشجرة تُسبح، والاسطوانة لا تُسبح. قال يزيد الرقاشي للحسن - وهما في طعام، وقد قدّم الخِوان-: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يُسبح مدة. يريد أن الشجرة، في زمان نموها واغتذائها، تُسَبح. وقد صارت خوانًا أو نحوه، أي: صارت جمادًا. وقالت فرقة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء، على العموم، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون؛ من أنه أثر الصنعة، لكان أمرًا مفهومًا، والآية تنطق بأنه لا يُفقه، وينفصل عنه؛ بأن يريد بقوله: { لا تفقهون }: الكفار والغفلة، أي: أنهم يُعرضون عن الاعتبار؛ فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء. هـ.
قال شيخ شيوخنا؛ سيدي عبد الرحمن العارف: وربما يدل للعموم تسبيح الحصى في يده - عليه الصلاة والسلام -، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد، وكذا تسبيح الطعام. وأما التخصيص بالناميات؛ من نبات غير يابس، وحجر متصل بموضعه، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة، ولا ينتفي مطلق الاستمداد؛ لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله، فهو عام، وقد قال تعالى:
{ { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } [سَبَأ: 10]، وتدبر حنين الجذع. هـ. وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه، وقال البيضاوي أيضًا في قوله: { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أيها المشركون؛ لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح. ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة؛ لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ، وإلى ما لا يتصور منه، وعليهما، أي: ويحمل - عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. هـ.
{ إِنه كان حليمًا }؛ حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة، مع ما أنتم عليه من موجباتها؛ من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة، الدالة على التوحيد، والانهماك في الكفر والإشراك، { غفورًا } لمن تاب منكم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش، أو ما قُدر وجوده من غيرهما؛ كله قائم بين حس ومعنى، بين عبودية وربوبية، بين قدرة وحكمة. فالحس محل العبودية، فيه تظهر قهرية الربوبية، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها، وتقول: سبحانه ما أعظم شأنه، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد، وغاص في أسرار التفريد.
فالأشياء ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، قائمة من حيث حسها، ممحوة من حيث معناها، ولا وجود للحس من ذاته، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته. وفي الحديث، في وصف أهل الجنة:
"وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" . فمن خرق حجاب الوهم، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين. فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال، ومن جهة حسها بلسان الحال، وتسبيحها كما ذكرنا. ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون. وحسب من لم يصحبهم التسليم، كما قال القائل:

إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ

والله تعالى أعلم.
وسبب عدم فقه التسبيح الأشياء غفلة القلوب وطبع الأكنة.