التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً
٢١
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { إذ يتنازعون }: ظرف لقوله: { أعثرنا }، لا ليعلموا، أي: أعثرنا هم عليهم حين يتنازعون بينهم... الخ، و { رجمًا }: حال، أي: راجمين بالغيب، أو مفعول مُطلق، أي: يرجمون رجمًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وكذلك } أي: وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم { أعْثَرْنا عليهم }: أطلعنا الناس عليهم { ليَعْلموا } أي: ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت { أنَّ وعد الله } أي: وعده بالبعث والثواب والعقاب { حقٌّ } صادق لا خُلْف فيه، أو: ثابت لا مرد له؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يُبعث، { وأنَّ الساعة } أي: القيامة، التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا؛ للحساب والجزاء، { لا ريبَ فيها }: لا شك في قيامها، فإنَّ مَنْ شاهد أنه جلّ وعلا تَوفَّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر، حافظًا لأبدانها من التحلل والفساد، ثم أرسلها كما كانت، لا يبقى معه ريب، ولا يختلجه شك، في أن وعده تعالى حق، وأنه يبعث مَنْ في القبور، ويجازيهم بأعمالهم.
وكان ذلك الإعثار { إِذْ يتنازعون }: حين كانوا يتنازعون { بينهم أمْرَهُم }، في أمر البعث مختلفين فيه؛ ففرقة أقرّت، وفرقة جَحَدّتْ، وقائل يقول: تُبعث الأرواح فقط، وآخر يقول: تُبعث جميعُ الأجسام بالأرواح، قيل: كان ملك المدينة حينئذ رجلاً صالحًا، ملَكها ثمانيًا وعشرين سنة، ثم اختلف أهلُ مملكته في البعث كما تقدم، فدخل الملِكُ بيته وغلق الباب، ولبس مسحًا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يظهر الحق، فألقى الله - عزّ وجلّ - في نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف، أن يهدم بنيان فم الكهف، فهدم ما سدَّ به "دقيانوس" بابَ الكهفِ؛ ليتخذه حظيرة لغنمه، فعند ذلك بعثهم الله - تعالى - فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
رُوِيَ أنَّ المبعوث لمَّا دخل المدينة؛ ليشتري الطعام، أخرج دراهمه، وكانت على ضرب (دقيانوس)، فاتهموه أنه وجد كنزاً، فذهبوا به إلى الملك، فقص عليه القصة، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من (دقيانوس)، فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة؛ من مسلم وكافر، فدخلوا عليهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك: نُودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن، ثم رجعوا إلى مضاجعهم، فماتوا، فألقى المَلِكُ عليهم ثيابه، وجعل لكل منهم تابوتًا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدًا. وقيل: لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانَكَم حتى أدخل أولاً؛ لئلا يفزعوا، فدخل، فَعُمِّي عليهم المدخل، فبنوا ثَمَّةَ مسجدًا.
وقيل: المتنازَع فيه: أمر الفتية قبل بعثهم، أي: أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال. وعلى التقديرين: فالفاء في قوله: { فقالوا ابنُوا } فصيحة، أي: أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا، ثم ماتوا، فقال بعضهم: { ابنوا عليهم }: على باب كهفهم { بُنيانًا }؛ لئلا يتطرق إليهم الناس، ففعلوا ذلك؛ ضنًا بمقامهم ومحافظة عليهم.
ثم قالوا: { ربهم أعلمُ بهم }، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم؛ من حيث النسبة، ومن حيث العدد، ومن حيث بُعد اللبث في الكهف، قالوا ذلك؛ تفويضًا إلى علام الغيوب. أو: يكون من كلامه سبحانه؛ ردًا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، { قال الذين غلبوا على أمرهم }، وهو الملك والمسلمون، وكانوا غالبين في ذلك الوقت: { لنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا }، فذكر في القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدًا يصلي فيه.
ثم وقع الخوض في عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام - بين نصارى نجران حين قدموا المدينة، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين في عددهم، كما قال تعالى: { سيقولون ثلاثةٌ رابعُهُم كلبهم }، وهو قول اليعقوبية من النصارى، وكبيرهم السيد، وقيل: قالته اليهود، { ويقولون خمسة سادِسُهم كلبهُم }، هو قول النسطورية منهم، وكبيرهم العاقب، { رجمًا بالغيب }: رميًا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر، أو ظنًا بالغيب من غير تحقيق، { ويقولون سبعة وثامنهمْ كلبهم }، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي، وعدم نظمه في سلك الرجم بالغيب، وتغيير سبكه؛ بزيادة الواو المفيدة لزيادةِ تأكيد النسبة فيما بين طرفيها، يَقضي بصحته.
قال تعالى: { قل } يا محمد؛ تحقيقًا للحق، وردًا على الأولين: { ربي أعلم بعدَّتهم } أي: ربي أقوى علمًا بعدتهم، { ما يعلمهم } أي: ما يعلم عددهم { إِلا قليلٌ } من الناس، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي الله عنه: "أنا من ذلك القليل"، قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة، وأيضًا حين سكت عنه تعالى ولم يقل: رجمًا بالغيب، علم أنه حق. وعن علي - كرم الله وجهه -: أنهم سبعة، أسماؤهم: يمليخا، وهو الذي ذهب بورقهم، ومكسيلمينيا، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومشلينا، وفي رواية الطبري: ومجْسَيْسِيا بدله، وهؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، و السابع: الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس، واسمه: كفشططيوش. وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء، وكلهم عجميون، قال: والسندُ في معرفتهم واهٍ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس، رحمةً بهم؛ إذ لو أظهرهم في البدايات؛ لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه، حتى إذا تخلصوا من البقايا، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته؛ ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق، وأنّ خراب العالم بانقراضهم، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء. والله تعالى أعلم.
ثمَّ نهى نبنه عن المجادلة بعد وضوح الحق