التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { المثابة }: المرجع الذي يثُوب الناس إليه كل سنة، و { اتخذوا }: على قراءة الأمر، محكي بقول محذوف، أي: وقلنا اتخذوا، وعلى قراءة الماضي: معطوف على { جعلنا }، أي: جعلناه مثابة، واتخذه الناس مُصلَّى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { و } اذكر يا محمد { إذ جعلنا البيت } الحرام: أي: الكعبة، مرجعاً للناس يرجعون لزيارته والطواف به كل سنة، وجعلناه محل أمن، كل من دخله كان آمناً من عقوبة الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنَّ الناس يُتَخطفون من حوله، وأهلُه آمنون، وأمافي الآخرة فلأن الحج يَجُبُّ ما قبله، وهذا يدل على شرف البيت وحرمته.
وقلنا لهم: { اتخذوا من مقام إبراهيم }، وهو الحجر الذي فيه أثر قدميه، { مصلى } تصلون إليه، وهو الذي يصلون خلفه ركعتي الطواف، { وعهدنا } أي: أوحينا { إلى إبراهيم وإسماعيل } ولده، بأن قلنا لهما: { طهرا بيتي } من الأدناس والأرجاس والأصنام والأوثان، { للطائفين } به { والعاكفين } أي: المقيمين فيه، والمصلين فيه الراكعين الساجدين. فكان البيت مطهراً في زمانهما وبعدهما زماناً، ثم أدخلت فيه الأصنام فطهّره نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتبقى طهارته حتى يأتي أمر الله، والله تعالى أعلم.
الإشارة: القلب هو بيت الرب، يقول الله تبارك وتعالى لبعض أنبيائه: "طهر لي بيتاً أسكنه، فقال: يا رب أي بيت يسعك؟ فقال له: لن تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن". فإذا تطهر القلب من الأغيار وملئ بالأنوار، وتمكنت فيه المعارف والأسرار، كان مرجعاً وملجأ للعباد، كل مَن وصل إليه، وطاف به، كان آمنناً من الزيغ والعناد، ومن خواطر السوء سوء الاعتقاد، ومن دخله والوداد، أَمِن من الطرْد والبعاد، وكان عند الله من أفضل العباد. ومقام إبراهيم - عليه السلام - هو الاستغراق في عين بحر الشهود، ورفع الهمة عن ما سوى الملك المعبود.
وهذا المقام هو الذي اتخذه العارفون كعبة لصلاة قلوبهم، وغاية لمنتهى قصودهم.

عِبارَاتُهُم شَتَّى، وحُسْنُكَ واحِدٌ،وكُلٍّ إلى ذلك الجَمالِ يُشِيرُ

وقد عهد الله تعالى إلى أنبيائه وأصفيائه أن يطهروا قلوبهم من الأغيار، ويرفضوا كل ما سواه من الأكدار، لتتهيأ بذلك لطواف الواردات والأنوار، ولعكوف المعارف والأسرار، وتخضع لهيبتها ظواهرُ الأشباح، وتنقاد لجمال بهجتها القلوبُ والأرواح، وما ذلك على الله بعزيز.