التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ }
قلت: { أن تبتغوا }: على إسقاط حرف الجر، أيْ: في أن تبتغوا، وسبب نزول الآية: أن عُكاظاً ومَجَنّة وذا المجاز - أسماء مواضع - كانت أسواقاً في الجاهلية يعمرونها في مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثَّمُوا وتحرجوا أن يتجروا فيها، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله: { ليس عليكم جناح } أي: إثم أو ميل عن الصواب، في { أن تبتغوا فضلاً من ربكم } أي: عطاء ورزقاً تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم، إذا خلَصَتْ نيتكم، وغلب قصدُ الحج على التجارة.
وها هنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء وحاصلها: أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب، وإذا تمحض الله خالصاً فهو سبب القرب والثواب، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث؛ فإن كان باعث الحظ أغلب، سقط، وكان إلى العقوبة أقرب، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله، وإن كان باعث التقرب أغلب، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ، وإن تساوي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال: ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجّاً ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه. ثم قال: والصواب أنْ يقال: مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي، وكان غرضُ التجارة كالتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة، يعني: يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب، ينظر لغالب الباعث.
قلت: وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب، فالخالص من الحظوظ مقبول، والمتمحض للحظوظ مردود، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم.
وقد ذكر شيه المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال: إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلّب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة، مع جَرْي ما قُدِّر له، ولا يلتفت إليها؛ لأنها في معزل عنه، وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلّب في شهواته، وعبودية الله عنه بمعزلِ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر، قال: وهذا باب من الولاية والإهانة. وأما الصِّدِّيقية العظمى، والولاية الكبرى، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة؛ لأنه بالله فيما يأخذ ويترك. هـ.
الإشارة: العبد لا يستغني عن طلب الزيادة، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية، فالقناعة من الله حرمان، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلاً من ربكم زيادة في إيقانكم، وترَقِّياً في معانيكم، إذ كمالات الحق لا نهاية لها، وأسرار الذات لا إحاطة بها، قال تعالى:
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه: 110]. والله وليّ التوفيق.
ثم ذكر الحقّ تعالى الوقوف بعرفة، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام، فقال:
{ ...فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً... }
قلت: { أفضتُم }: دفعتم، وأصل الإفاضة: الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبَع بقوة، ثم استُعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة. و { عرفات } فيه الصرف وعدمه، كأذرعات. وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علَّمه المناسك: قد عرفتُ: أو لمعرفة آدم حواءَ فيها. والكاف في { كما هداكم } تعليلية، و { ما } مصدرية، أي: واذكروه لأجل هدايته لكم. و { إن كنتم } مخففة، واللام فارقة، وقوله: { أو أشد } نعت لمصدر محذوف، أي: أو ذكراً أشد... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: فإذا وقفتم بعرفة، وأفضتم منها، فانزلوا المزدلفة وبيِتُوا بها، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند { المشعر الحرام }، وهو جبل في آخر المزدلفة، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار، هكذا فعل الرسول - عليه الصلاة والسلام -، { واذكروه } لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه، وغير ذلك من شعائر الدين، أو فاذكروه ذكراً حسناً هداكم هداية حسنة، وقد كنتم من قبل هذه الهداية { لمن الضالين }.
وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعاً عليهم، بل تقف بالمزدلفة، فأمرهم الحق جلّ جلاله بالوقوف مع الناس، فقال لهم: { ثم أفيضوا } يا معشر قريش { من حيث أفاض الناس } بأن تَقْضُوا معهم، وتفيضوا من حيث أفاضوا، { واستغفروا الله } في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلامَ - { إن الله غفور } لكم، { رحيم } بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم. { فإذا قضيتم مناسككم } وفرغتم من حجتكم { فاذكروا الله } ذكراً كثيراً { كذكركم آباءكم } أو ذكراً { أشد ذكراً } منهم، حيث كنتم تَذْكُرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخَرة، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقَفُوا بِمنى، بين المسجد والجبل، فيذكرون مفاخرة آبائهم، ومحاسن أيامهم، فأُمِرُوا أن يُبدلوا ذلك بذكر الله، وذكر إحسانه إليهم، وشكر ما أسداه إليهم من مفاخر الدنيا والآخرة، إن آمنوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
الإشارة: إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشحباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم، أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ؛ فليستغفروا الله { إن الله غفور رحيم }. ثم يقال لهم: فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم.
ثم بيَّن الحقّ تعالى مقاصد الناس، وهممهم في طلبهم وسعيهم، فقال:
{ ... فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }
يقول الحقّ جلّ جلاله: في بيان مقاصد الناس وهممهم في طلبهم في الحج وغيره: { فمن الناس } من قصرت نيته وانحطت همته، { يقول ربنا آتنا في الدنيا } ما تشتهيه نفوسنا من حظوظها وشهواتها، وليس له { في الآخرة من خلاق } أي: نصيب، لأنه عجَّل نصيبه في الدنيا. "إن الله يرزق العبد على قدر نيته" { ومنهم } من أراد كرامة الدنيا وشرف الآخرة { يقول ربنا آتنا في الدنيا } حالة { حسنة }؛ كالمعرفة، والعافية، والمال الحلال، والزوجة الحسنة، وجميع أنواع الجمال، { وفي الآخرة حسنة }؛ كالنظرة، والحُور العين، والقصور، جميع أنواع النعيم، { وقنا عذاب النار } بالعفو والمغفر، وقال سيّدنا عليٍّ - كرَّم الله وجهه -: (الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة،، وفي الآخرة: الحَوْرَاء. وعذاب النار في الدنيا: المرأة السوء) وقال الحسن: (الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة). { وقنا عذاب النار }: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار، وهذه كلها أمثلة للحالة الحسنة.
{ أولئك } الذين طلبوا خيرَ الدارَيْن { لهم نصيب } وحظٍّ من الجزاء الوافر من أجلْ ما كسبوا من الأعمال الصالحات، { والله سريع الحساب } يحاسب عباده على كثرتهم، وكثرة أعمالهم، في مقدار لَمْحة. قيل لعليّ رضي الله عنه: كيف يُحاسب اللّهُ عباده في ساعة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في ساعة واحدة. هـ. أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب عباده، فبادِرُوا إلى إغتنام الطاعات، واكتساب الحسنات، قبل هجوم الممات.
الإشارة: الناس ثلاثة: صاحب همة دَنِيَّة، وذو همة متوسطة، وصاحب همة عالية، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب، فما له في الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين، وصلاح الحالين، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار، فهذا له في الدنيا حسنة، وهي الكفاية والغنى، وفي الآخرة حسنة، وهي النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين، بل علَّق همته بمولاه، ولم يقنع بشيء سواه، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً، وأعرض عنها مُولياً، ولم يشغله عن الله شيء، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبودية للكبير المتعال: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة } وهي النظرة والشهود، ورضا الملك الودود، { وفي الآخرة حسنة } وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى، من المقربين والأنبياء، في حضرة الشهود المؤبد { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }. أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر، بمنِّه وكرمه، نحن وأحباءَنا أجمعين، آمين.