التفاسير

< >
عرض

ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٢٨٥
لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٨٦
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: من قرأ: { لا نفرق } بالنون، فعلى حذف القول، أي: قالوا: لا نفرق، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل، أي: لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله، و { بين }: من الظروف النسبية، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء، تقول: جلست بين زيد وعمرو، وبين رجلين، أو رجال، ولا تقول بين زيد فقط، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه في معنى الجماعة، أي: لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أُحلَّت الغنائم لأحدٍ، سُودِ الرؤوس، غيركم" . و { غفرانك }: مفعول مطلق، أي: اغفر لنا غفرانك. أو: نطلب غفرانك، فيكون مفعولاً به.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إيمان تحقيق وشهود { والمؤمنون } كل على قدر إيقان، { كل } واحد منهم { آمن بالله } على ما يليبق به من شهود وعيان، أو دليل وبرهان، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون
{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التّحْريم: 6]، { وكتبه } وأنها كلام الله، مشتملة على أمر وني ووعد ووعيد وقصص وأخبار، وما عرف منها؛ كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجب الإيمان به بعينه، وما لم يعرف وجب الإيمان به في الجملة، { ورسله } وأنهم بشر متصفون بالكمالات، منزّهون عن النقائص، كما يليق بحالهم، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين { لا نفرق بين أحد من رسله } أو: { لا يفرق } كل منهم بين أحد من رسله؛ بأن يصدقوا بالبعض، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى، { وقالوا } أي المؤمنين { سمعنا وأطعنا } أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك، نطلب { غفرانك } يا ربنا { وإليك المصير } بالبعث والنشور، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان.
فلمّا تحقق إيمانُهم، وتيقن إذعانُهم، خفَّف الله عنهم بقوله: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي: إلا ما في طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي فجائز التكليف به، وأما المحال العقلي فيمتنع. إذ لا يتصور وقوعه، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه، فكل نفس { لها ما كسبت } من الخير فتوفى أجره على التمام، { وعليها ما اكتسبت } من الشر، فترى جزاءه، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام.
وعبر في جانب الخير بالكسب، وفي جانب الشر بالاكتساب، تعليماً للأدب في نسبة الخير إلى الله، والشر إلى العبد، فتأمله.
ثم قالوا في تمام دعائهم: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، أي: لا تؤاخذنا بما أدى إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة، وفي الحديث:
"إنّ الله رفعَ عن أمتي الْخَطأَ والنِّسْيَانَ وما حدثتْ به نفسَها" . ويجوز أن يراد نفس الخطأ والنسيان؛ إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلاً، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناول السم ويؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ - فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلاً. ويجوز أن يدعو به الإنسان، استدامة واعتداداً بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله - عليه الصلاة والسلام -: "رُفع عن أُمَّتِي الْخَطأ والنِّسْيَانْ" . أي: فإن غير هذه الأمة كانوا يؤاخذون به، فدلّ على عدم امتناعه. قاله البيضاوي.
ثم قالوا: { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أي: عهداً ثقيلاً يأصر ظهورنا، أي: يثقله، فتعذبنا بتركه وعدم حمله، { كما حملته على الذين من قبلنا } مثل اليهود في تكليفهم بقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة، وغير ذلك من التكاليف الشاقة، { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من التكاليف التي لا تسعها طاقتنا، وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق عادة، وإلا لما سئل التخلص منه، { واعف عنا } أي: امح ذنوبنا، { واغفر لنا } أي: استر عيوبنا، { وارحمنا } أي: تعطف علينا. { اعف عنا } الصغائر، { واغفر لنا } الكبائر، { وارحمنا } عند الشدائد والحسرات، { أنت مولانا } أي: سيدنا وناصرنا، { فانصرنا على القوم الكافرين }؛ فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء.
قال البيضاوي: (رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - لمّا دعا بهذه الدعوات قيل له: فعلتُ): وعنه عليه الصلاة والسلام:
"أُنْزِلَ آيتان من كُنوز الجنة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفَيْ سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجْزَأتَاه عن قيام الليل" . وعنه عليه الصلاة والسلام: "من قرأ الآيَتينِ مِنْ آخِر سُورَةِ الْبَقَرةِ في لَيْلَة كَفَتَاهُ" . وهو يَرُدُّ قول من استكره أن يقال سورة البقرة، وقال: ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "السورةُ التي يُذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها؛ فإنَّ تعلُّمها بَرَكَة، وَتَرْكَهَا حَسْرَة، ولن يَسْتَطِيعها البَطَلَةُ. قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة" .
الإشارة: يُفهم من سر الآية أن من شق عليه أمر من الأمور، أو عسرت عليه حاجة، أو نزلت به شدة أبو بلية، فليرجع إلى الله، ولينطرح بين يدي مولاه، وليعتقد أن الأمور كلها بيده؛ فإن الله تعالى لا يخليه من معونته ورفده، فيخفف عنه ما نزل به، أو يقويه على حمله، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لما شق عليهم المحاسبة على الخواطر سلَّموا وأذعنوا لأمر مولاهم، فأنزل عليهم التخفيف، وأسقط عنهم في ذلك التكليف، وكل من رجع في أموره كلها إلى الله قضيت حوائجه كلها بالله. "من علامات النُّجْحِ في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات".
وقوله تعالى: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }، قيل: هو الحب لله، فلا يسأل العبد من مولاه من حبه إلا ما يطيقه، وتأمل قضية الرجل الذي سأل سيدنا موسى عليه السلام أن يرزقه الله حبه، فلما سأل ربه موسى عليه السلام هام ذلك الرجل، وشق ثيابه، وتمزقت أوصاله حتى مات. فناجى موسى رضي الله عنه ربه في شأنه، فقال: يا موسى، ألف رجل كلهم سألوني ما سأل ذلك الرجل، فقسمت جزءاً من محبتي بينهم، فنابه ذلك. الجزء. أو كما قال سبحانه.
وقال بعض الصالحين: حضرتُ مجلس ذي النون، في فسطاط مصر، فَحَزَرْت في مجلسه سبعين ألفاً، فتكلم ذلك اليوم في محبته تعالى فمات أحدَ عشرَ رجلاً في المجلس، فصاح رجل من المريدين فقال: يا أبا الفيض، ذكرْتَ محبة الله تعالى فاذكر محبة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّهاً شديداً، ومدّ يده إلى قميصه، وشقه اثنتين، وقال: آه! غلقت رهونهم، واستعبرت عيونهم، وحالفوا السُّهَاد، وفارقوا الرُّقاد، فليلُهم طويل، ونومهم قليل، أحزانهم لا تُنْفذ. وهموهم لا تفقد، أمورهم عسيرة، ودموعهم غزيرة، باكية عيونهم، قريحة جفونهم، عاداهم الزمان والأهل والجيران.
قلت: هذه حالة العباد والزهاد، أُولي الجد والاجتهاد، غلب عليهم الخوف المزعج، أو الشوق المقلق، وأما العارفون الواصلون؛ فقد زال عنهم هذا التعب، وأفضوا إلى الراحة بعد النصب، قد وصلوا إلى مشاهدة الحبيب، ومناجاة القريب، فعبادتهم قلبية، وأعمالهم باطنية، بين فكرة ونظرة، مع العكوف في الحضرة، قد سكن شوقهم وزال قلقهم، قد شربوا ورووا، وسكروا وصحوا، لا تحركهم الأحوال، ولا تهيجهم الأقوال، بل هم كالجبال الرواسي، نفعنا الله بذكرهم، وجعلنا من حزرهم. آمين.
قوله تعالى: { واعف عنا }، قال الورتجبي: أي: { واعف عنا } قلة المعرفة بك، { واغفر لنا } التقصير في عبادتك، { وارحمنا } بمواصلتك ومشاهدتك. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.