التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ
٤٠
وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ
٤١
وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٤٢
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ
٤٣
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { إسرائيل }: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة السلام - وهو اسم عجمي، وبنو تميم تقول: "إسرائين" بالنون، (وإسرا) بالعبرانية: عبد، و (إيل): اسم الله تعالى، فمعناه: عبد الله، وبنو إسرائيل: هم أولاد يعقوب عليه السلام، و { بعهدي } من إضافة المصدر إلى فاعله، و { بعهدكم } إلى مفعوله، و { إياي } منصوب بفعل مضمر، يُقدر مؤخراً. أي: أياي ارهبوا فارهبون. وحذف مفعول { ارهبون } لرؤوس الآي وكذا قوله: { وإياي فاتقون }، والرهبة: خوف مع تحرُّز، و { تكتموا }: معطوف على { تلبسوا }، أو منصوب بأن مضمرة بعد النهي، و { أنتم تعلمون }: جملة حالية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ } التي خصصتُكم بها، بأن فضلتكم على أهل زمانكم، وجعلت فيكم أنبياء ورسلاً، كلما انقرض نبيّ بعثت نبيّاً آخر، وجعلتكم ملوكاً وحكاماً على الناس، قبل أن تفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء، فتكفروا بهذه النعم، فإن الإنسان حسود غيروٌ بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الحسد والغيرة على السخط والكفران، وإذا نظر إلى ما أنعم الله به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر، فاذكروا ما أنعمت به عليكم، وقيدوه بالشكر، { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } الذي عهدت إليكم، وهو أنكم إن أدركتم محمداً صلى الله عليه وسلم لتؤمنن به ولتنصرنه، ولتبينن صفته التي في كتابكم، ولا تكتمونها، { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بأن أدخلكم جنتي، وأبيح لكم النظر إلى وجهي، وأحل عليكم رضواني في جملة عبادي، ولا ترهبوا أحداً غيري، فإنه لا فاعل غيري.
وبادروا إلى الإيمان { بِمَا أَنْزَلْتُ } على محمد رسولي، من كتابي، الذي هو مصدق { لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة، ومهيمن عليه، { وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ } فريق { كَافِرِ بِهِ }، فتبوؤوا بإثمكم وإثم من تبعكم، ولا تستبدلوا الإيمان الذي هو سبب الفوز في الدارين، بالعرضِ الفاني الذي تأخذونه من سفلتكم، فإنه ثمن قليل يعقبه عذاب جليل وخزي كبير. ولا تخشوا أحداً سواي؛ فإن النفع والضرر بيدي، ولا تخلطوا { الْحَقَّ } الذي هو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته التي في كتابكم، { بِالْبَاطِلِ } الذي تريدونه تحريفاً وتأويلاً، { و } لا { تكتموا الحّقَّ } الذي عندكم، من ذكر محمد وصحة رسالته، { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنكم محرفون، ولابسون عناداً وحسداً، فيحل عليكم غضبي وعقابي،
{ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى } [طه: 81]. فإذا حصلتم أصول الدين، وهو الإيمان، فاشتغلوا بفروعه، وهي الصلاة والزكاة وغيرهما، فأدوهما على منهاج المسلمين. واجعلوا صلاتكم في جماعة المؤمنين؛ فإنَّ صلاة الجماعة تُفضلُ غيرها بسبعٍ وعشرين درجة، مع سريان واقتباس الأنوار من الصالحين والأبرار، وبالله التوفيق.
الإشارة: إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه لكل سامع، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين، كان المراد بذلك تحذير كل مَن يسمع، فكأن الحق جلّ جلاله يقول: يا بني آدم اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وتفكروا في أصولها وفروعها، واشكروني عليها بنسبتها إليَّ وحدي، فإنه لا منعم غيري، فمن شكرني شكرته، ومن فيض إحساني وبري مددته، ومن كفر نعمتي سلبته، وعن بابي طردته، وأوفوا بعهدي بالقيام بوظائف العبودية، أوف بعهدكم بأن أطلعكم على أسرار الربوبية.
أو: { أوفوا بعهدي } بالقيام برسوم الشريعة، { أوفِ بعهدكم } بالهداية إلى منار الطريقة، أو: { أوفوا بعهدي } بسلوك منهاج الطريقة، { أوفِ بعهدكم } بالإيصال إلى عين الحقيقة، أو: { أوفوا بعهدي } بالاستغراق في بحر الشهود، { أوفِ بعهدكم } بالترقي أبداً غلى الملك الودود، وخصّوني بالرهب والرغب، وتوجهوا إليّ في كل سؤال وطلب، أعطف عليكم بعنايتي وودي، وأمنحكم من عظيم إحساني ورفدي، { وآمنوا بما أنزلت } على قلوب أوليائي، ومن مواهب أسراري وآلائي، تصديقاً لما أتحفت به رسلي وأنبيائي، فكل ما ظهر على الأولياء فهو معجزة للأنبياء وتصديق لهم، ولا تبادروا بالإنكار على أوليائي، فتكونوا سبباً في طرد عبادي عن بابي، ولا يمنعكم حب الرئاسة والجاه عن الخضوع إلى أوليائي، ولا ترقبوا أحداً غيري، فإني أمنعكم من شهود سري.
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل }، فتظهروا شعار الصالحين وتبطنوا أخلاق الفاسقين، تتزيوا بزي الأولياء، تفعلوا فعل الأغوياء، وإذا تحققتم بخصوصية أحد من عبادي، فلا تكتموها عن أهل محبتي وودادي، وأقيموا صلاة القلوب بالخضوع تحت مجاري الأقدار، وأدّوا زكاة النفوس بالذل والانكسار، وكونوا مع الخاشعين، { واركعوا مع الراكعين }، أمنحكم معونتي ونصري، وأفيض عليكم من بحر إحساني وبري، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.