التفاسير

< >
عرض

وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ
١٩
يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
٢٠
أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ
٢١
لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٢٢
لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
٢٣
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٤
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ
٢٥
-الأنبياء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وله من في السماوات والأرض } أي له جميع المخلوقات، خلقًا ومِلكًا، وتدبيرًا وتصرفًا، وإحياء وإِماتة، وتعذيبًا وإثابة، من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل، لا استقلالاً ولا استتباعًا، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلي، { ومَنْ عنده } وهم الملائكة - عليهم السلام - عبَّر عنهم بذلك إثر ما عبَّر عنهم بمن في السماوات؛ تنزيلاً لهم - لكرامتهم عليه، وزلفاهم عنده - منزلة المقربين عند الملك، وهو مبتدأ وخبره: { لا يستكبرون عن عبادته } أي: لا يتعاظمون عنها، ولا يَعُدون أنفسهم كبراء، { ولا يستحسرون } أي: لا يكِلُّون ولا يَعْيون، { يُسبِّحُون الليلَ والنهار } أي: ينزهونه في جميع الأوقات، ويُعظمونه ويمجدونه دائمًا. وهو استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا يصنعون في عبادتهم، أو كيف يعبدون؟ فقال: يُسبحون.. الخ. { لا يَفْتَرُون } أي: لا يتخلل تسبيحَهم فترة أصلاً، ولا شغل آخر.
ولمّا برهن على وحدانيته تعالى في ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره، وأنَّ عباده مذعنون لطاعته، ومثابرون على عبادته، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان، فقال: { أم اتخذوا آلهة } يعبدونها { من الأرض } أي: اتخذوها من جنس الأرض، أحجارًا وخشبًا، { هم يُنْشِرُون } أي: يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع، لا نفس الاتخاذ، فإنه واقع لا محالة، أي: بل اتخذوا آلهة من الأرض، هم مع حقارتهم، ينشرون الموتى، كلا... فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك، وهم، وإن لم يقولوا بذلك صريحًا، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية، فكأنهم ادعوا لها الإنشار، ضرورة؛ لأنه من خصائص الإلهية، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير في: { هم يُنشِرون }: التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار، الموجبة لمزيد الإنكار، كما في قوله تعالى:
{ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ } [إبراهيم: 10]. وفي قوله تعالى: { أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } [التّوبَة: 65]، فإنَّ تقديم الجار والمجرور؛ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.
ثم أبطل الاشتراك في الألوهية، فقال: { لو كان فيهما آلهةً إِلا الله } أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله، كما هو اعتقادهم الباطل، { لفسدَتَا } أي: لفسد نظامهما بما فيهما، لوجود التمانع، كعادة الملوك، أو لبطلتا بما فيهما، ولم يوجد شيء منهما؛ للزوم العجز لهما، بيان ذلك: أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق، تغييرًا وبديلاً، وإيجادًا وإعدامًا، وإحياء وإماتة، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد، إما بتأثير كل منها، وهو محال؛ لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين، وإما بتأثير واحد منها، فالباقي بمعزل عن الإلهية، والمسألة مقررة في علم الكلام.
و { إلا }: صفة لآلهة، كما يُوصف بغير، ولمَّا كانت حرفًا، ظهر إعرابها في اسم الجلالة، ولا يصح رفعه على البدل؛ لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى: { فسبحان الله } أي: فسبحوا سُبحان الله اللائق به، وننزهوه عما لا يليق به من الأمور، التي من جملتها: أن يكون له شريك في الألوهية. وإيراد الجلالة في موضع الإضمار، حيث لم يقل فسبحانه؛ للإشعار بعلية الحكم، فإنَّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله، التي من جملتها: تنزهه تعالى عما لا يليق به، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله: { ربِّ العرش }، وخصه بالذكر، مع كونه رب كل شيء؛ لعظم شأنه؛ لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء، أي: تنزيهًا له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.
ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر، فقال: { لا يُسأل عما يَفعل } أي: لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل؛ هيبةً وإجلالاً، { وهم يُسألون } أي: وعباده يُسألون عما يفعلون، نقيرًا وقطميرًا؛ لأنهم مملوكون له تعالى، مستعبدون، ففيه وعيد للكفرة، فالآية تتميم لقوله: { لاعبين } ، بل خلقنا الأشياء كلها لحكمة، فمنها ما أدركتم حكمته، ومنها ما غاب عنكم، فكِلُوا أمره إلى الله، ولا تسألوه عما يفعل، فإنه لا يُسأل عن فعله، وأنتم تُسألون.
ثم قال تعالى: { أم اتخذوا من دونه آلهة }، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة؛ بإظهار خلوها من خصائص الألوهية، التي من جملتها إنشار الموتى، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة، مع عرائها عن تلك الخصائص، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة: لإنكار ما اتخذوه واستقباحه، أي: بل اتخذوا من دونه - أي: متجاوزين إياه تعالى، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية - آلهة، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.
{ قلْ } لهم، بطريق التبكيت: { هاتُوا برهانكم } على ما تَدَّعونَه، من جهة العقل والنقل؛ فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية، لا سيما في هذا الأمر الخطير، فإن بُهتوا فقل لهم: { هذا ذكر مَنْ معي وذكر مَنْ قبلي } أي: بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع { ذُكرُ من معي } من أمتي، أي: عظتهم، { وذكرُ مَن قبلي } من الأمم السالفة، أي: بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا، وبه أمر مَنْ قبلنا، يعني: انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.
وقيل: المعنى: هذا كتاب أُنزل على أمتي، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء - عليهم السلام - قبلي، فانظروا: هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ففيه تبكيت لهم. { بل أكثرهم لا يعلمون الحقَّ } أي: لا يفهمونه، ولا يميزون بينه وبين الباطل، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة؛ لجهلهم وعنادهم، ولذلك قال: { فهم معرضون } أي: فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية؛ لانهماكهم.
{ وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ من رسولٍ إِلا يوحى إِليه أنه لا إِله إِلا أنا فاعبدون }، هذا مقرر لما قبله؛ من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية، وأجمعت عليه الرسل - عليهم السلام - قاطبة. وصيغة المضارع في (يوحى)؛ لحكاية الحال الماضية؛ استحضارًا لصورة الوحي العجيبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته }، العندية، هنا، عندية اصطفاء وتقريب، وهذه صفة العارفين المقربين، لا يستكبرون عن عبادته، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام، ولا يستحسرون: لا يملُّون منها ولا يشبعون، غير أنهم يتلونون فيها؛ من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب؛ كالتفكر والاعتبار، إلى عبادة الأرواح؛ كالشهود والاستبصار، إلى عبادة الأسرار؛ كالعكوف في حضرة الكريم الغفار، يُنزهون الله تعالى في جميع الأوقات، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال.
وقوله تعالى: { أم اتخذوا آلهة... } الخ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات، وقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إِلا الله لفسدتا }، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها؛ أولها: الألوهية، فلو تعددت لفسد نظام العالم، وثانيها: السلطنة، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية، وثالثها: الشيخوخة، إذا تعددت على مريد واحد فسدت ترتبيته، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } قال الكواشي: يعني: لا يُسأل عن فعله وحُكمه؛ لأنه الرب، وهم يُسألون؛ لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول: هذه آية الدبوس. قلت: وقد تقلب السين زايًا، ومعناها: أن كل ما تحكم به القدرة يجب حنو الرأس له، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال: ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى؛ وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. هـ.
وقوله: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إِلا نُوحيَ إِليه أنه لا إله إلا أنا } يعني: أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام: فناء في توحيد الأفعال، وهو ألا يرى الفعل إلا من الله، ويغيب عن الوسائط والأسباب، وفناء في توحيد الصفات، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله، وفناء في توحيد الذات، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله، ذوقًا ووجدًا وعقدًا. كما قال صاحب العينية:

هُوَ الموجِدُ الأشْيَاءِ وَهْوَ وُجُودُهَا وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلِّ وَهْوَ الجَوَامِعُ

وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات، فقال:

فيفنى ثم يفنى ثم يفنى فكان فناؤه عين البقاءِ

وهنا - أي: في مقام الفناء والبقاء - انتهت أقدام السائرين، ورسخت أسرار العارفين، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين، جعلنا الله من حزبهم. آمين.
ثمَّ انكر على من ادعى الولد له