التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ
١٧
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ
١٨
فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
١٩
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ
٢٠
وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٢١
وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٢٢
-المؤمنون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "سيناء"، مَنْ فتحها: جعل همزتها للتأنيث، فلم يصرفه؛ للتأنيث والوصف، كحمراء، أو لألف التأنيث، لقيامه مقام علتين، ومن كسرها: لم يصرفه؛ للتعريف والعجمة، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث، وإنما ألفُهُ ألف الإلحاق، كعلِباء وجِرباء.
ونبت وأنبت: لغتان بمعنى واحد وكذلك سقى وأسقى.
يقول الحق جل جلاله: { ولقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق }، وهي السموات السبع، جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة وتقلباتها، وطرق الكواكب، فيها مسيرها, { وما كنا عن الخلق غافلين }، أراد بالخلق السموات، كأنه قال: خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها، أو الناس، أي: خلقناها فوقكم؛ لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم، أو: خلقناها فوقكم، وما حالت بيننا وبينكم، بل نحن أقرب إليكم من كل شيء، فلا نغفل عن شيء من أمركم، قلَّ أو جلَّ.
{ وأنزلنا من السماء ماءً } هو المطر، وقيل: الأنهار النازلة من الجنة، وهي خمسة: سَيْحُون نهر الهند، وَجَيْحونُ نهر بلخ، ودِجْلَةُ والفُراتُ نهرا العراق، والنيل نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة. هـ. وقوله تعالى؛ { بقدَرِ } أي: بتقدير، يَسْلَمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة، أو: بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص، { فأسكناه في الأرض } أي: جعلناه ثابتاً قاراً فيها، كقوله:
{ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلأَرْضِ } [الزمر: 21]، فماء الأرض كله من السماء، { وإنا على ذهاب به } أي: إزالته بالإفساد والتغوير، حيث يتعذر استنباطه، { لقادرون } كما كنا قادرين على إنزاله، وفي تنكير "ذهاب": إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإيعاد به، ولذلك كان أبلغ من قوله: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [الملك: 30].
ثم ذكر نتائجه، فقال: { فأنشأنا لكم به } أي: بذلك الماء { جنات من نخيلِ وأعنابِ لكم فيها } أي: في الجنات، { فواكهُ كثيرةٌ } تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب، { ومنها تأكلون } أي من الجنات تأكلون تغذياً، وتفكهاً، أو تُرزقون وتحصِّلون معايشكم، من قولهم: فلان يأكل من حرفته، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب، أي: لكم في ثمرتها أنواع من الفواكه، الرطب والعنب، والتمر والزبيب، والعصير والدِّبْسُ، وغير ذلك وطعاماً تأكلونه.
{ و } أنبتنا به { شجرةً } هي الزيتون { تخرج من طُور سَيْناء }، وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، ويقال: فيه طور سنين، فإمَّا أن يكون الطور اسم الجبل، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها، أو المركب منهما عَلَمٌ له، كامرئ القيس، وتخصيصها بالخروج منه، مع خروجها من سائر البقع، إما لتعظيمها، أو لأنه المنشأ الأصلي لها؛ لأن أصل الزيتون من الشام، وأول ما نبت في الطور، ومنه نُقل إلى سائر البلاد، { تَنْبُتُ بالدُّهن } أي: متلبسة بالدهن، أي: ما يدهن به، وهو الزيت، { وصِبْغِ للآكلين } أي: إدام لهم، قال مقاتل: جعل الله في هذه إداماً ودُهناً، فالإدام: الزيتون، والدهن: الزيت. وقيل: هي اول شجرة تنبت بعد الطوفان، وخص هذه الأنواع الثلاثة؛ لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها.
{ وإنَّ لكم في الأنعام } ، جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، { لَعِبْرَةً } تعتبرون بها، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة الله تعالى، وسابغ نعمته، وتشكرونه عليه، { نُسقيكم مما في بطونها } من الألبان سائغة للشاربين، أو مما استقر في بطونها من العلَف؛ فإنَّ اللبن يتكون منه، { ولكم فيها منافعُ كثيرةٌ }، سوى الألبان، وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار. { ومنها تأكلون } أي: من لحومها، { وعليها } أي: على الأنعام في البر، { وعلى الفُلك } في البحر { تُحملون } في أسفاركم ومتاجركم، والمراد بالأنعام في الحمل الإبل؛ لأنها هي المحمول عليها في البر، فهي سفائن العرب، كما قال ذو الرمة:

سَفيِنَةُ بَرِّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا

يريد ناقته. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب، فمن خَرقَها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا، وهي حجاب المعاصي والذنوب، وحجاب النقائص والعيوب، وحجاب الغفلات، وحجاب العوائد والشهوات، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات، وحجاب حس الكائنات، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة، والأنس بالله والغيبة عما سواه، ارتفعت عنه الحجب، ووصل إلى المحبوب. قال الورتجبي: أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة. هـ. وقال القشيري: الحق - سبحانه - لا يستتر من رؤيته مُدْرَكٌ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية، وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْق وبصائرهم، والعادةُ جاريةٌ أنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحُجُب، ولذلك أدخِلَت الغفلةُ القلوبَ، واستولى عليها الذهول، سدَّت بصائرها، وغيبت فهومها، ففوقها حجب ظاهِرة وباطنة, ففي الظاهر: السموات حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية, وعلى القلوب أغشية وأغطية، كالشهوة والأمنية، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة.
ثم ذكر أن طرائق المريدين الفَتْرَة، وطرائق الزاهدين ترك عُروق الرغبة. قال: وأما العارفون فربما تظلهم في بعض أحيانهم وقفةٌ في تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّلُ الحقُّ - سبحانه - عليهم بكفاية ذلك، فيجدون نفاذاً، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق، وفي جميع ذلك فالحق - سبحانه - غير تاركٍ للعبد ولا غافلٍ عن الخلق. هـ.
وقوله: { وما كنا عن الخلق غافلين } أي: وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية، بل بعثنا الرسل، وفي أثرهم العارفين الربانيين، يُخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق. وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني، فأسكناه في أرض النفوس والقلوب، بقدر ما سبق لكل قلب منيب، وإناعلى ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون. ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، فأنشأنا بذلك العلم في قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان، وأعناب خمرة العيان، لكم فيها فواكه كثيرة، أي: تمتع كثير بلذة الشهود، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية، التي هي محل المناجاة، كطور موسى، أي: تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح، تنبت في القلب بدهن الذوق والوجد، وصبغ للآكلين، أي: المريدين الآكلين من تلك الشجرة، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين.
وقوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة }، قال القشيري: الإشارة فيه: أنّ الكدوراتِ الناجمةَ المتراكمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة، فإنَّ اللَّبنَ الخالص السائغَ يخرجُ من أخلاف الإبل والأنعام، من بين ما ينطوي حواياها عليها من الوحشة، ولكنه صافٍ لم يؤثر فيها بُحكم الجِوار، والصفا يوجد أكثره في عين الكُدروة؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حق ولا باطل. ومَنْ أَشرف على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير، فتسْقُط عنه كلفة التمييز؛ فالأسرارُ عند ذلك تصفو، والوقت لصاحبه لا يجفو، (ولكم فيها منافع) لازمةٌ لكم، ومتعدية منكم إلى كلِّ متصلٍ بكم. انتهى على لحن فيه، فتأمله.
ولما ذكرهم بالنعم ذكر من قابلها بالكفران فهلك