التفاسير

< >
عرض

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٥٦
-النور

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (ليستخلفنهم): جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و (كما): الكاف: محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي: استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و (ما): مصدرية. و (يعبدونني): حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و (لا يشركون): حال من واو (يعبدونني).
يقول الحق جل جلاله: { وعد الله الذين آمنوا منكم } أي: كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم. و (من): للبيان. وقيل: للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط. { وعملوا } مع الإيمان الأعمال { الصالحات }، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره في قوله:
{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [الفتح: 29]؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
ثم ذكر الموعود به، فقال: { لَيستخلفنَّهم في الأرض } أي: لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض: أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار" ، { كما استخلف الذين مِن قبلهم }؛ كبني إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى: { { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } [إبراهيم: 13].
{ وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم }: عطف على { ليستخلفنهم }، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها في الاستمالة أدخل، والمعنى: ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصف بقوله: { الذي ارتضى لهم }، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. { وليُبدِّلنهُمْ } بالتشديد والتخفيف من الإبدال، { من بعد خوفهم } من الأعداء { أمناً }.
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بالمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام:
"لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة" ، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل: الخوف والأمن في الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال: { يعبدونني } وحدي، { لا يُشركون بي شيئاً } أي: حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء، شركاً جلياً ولا خفياً؛ لرسوخ محبتهم، فلا يُحبون معه غيره، { ومن كَفَر بعد ذلك } أي: بعد الوعد الكريم، كفرانَ النعمة، أو الرجوع عن الإيمان، كما فعل أهلُ الردة، { فأولئك هم الفاسقون }؛ الكاملون في الفسق، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها، قيل: أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء - رضي الله عنهم -.
ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ }؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر، وكان من الفاسقين. { وأطيعوا الرسولَ } فيما دعاكم إليه وأمركم به، ومن جملة ما أمر به: طاعة أمرائه وخلفائه؛ لقوله: "عليكم بسنتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ"، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته - كما فعل أهل الردة - فقد كفر، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة، لقوله: { لعلكم تُرحمون } أي: لكي تُرحموا، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: سنة الله تعالى في خواصه: أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق، ثم يُعزهم، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما قال الشاذلي رضي الله عنه: اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا... إلخ كلامه.
قال القشيري: وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال: فأما حُفاظ الدين؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف: قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. هـ. تقدم ومثله في قوله:
{ { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } [التوبة: 122]. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الفريق الثالث، وهم الكفرة ظاهراً وباطناً، فقال: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ... }