التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٦
وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٧
وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٨
وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٩
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
١٠
-النور

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (إلا أنفسهم): بدل من (شهداء)، أو صفة له، على أن (إلا) بمعنى غير. و (فشهادة): مبتدأ، والخبر محذوف، أي: واجبة، أو: تدرأ عنه العذاب، أو: خبر عن محذوف، أي: فالواجب شهادة أحدهم، و(أنَّ)، في الموضعين: مخففة، وَمَنْ شَدَّدَ؛ فعلى الأصل. و(الخامسة): مبتدأ و (أنَّ غَضَبَ): خبر، وقرأ حفص بالنصب، أي: ويشهد الشهادة الخامسة.
يقول الحق جل جلاله: { والذين يرمون أزواجهم } أي: يقذفون زوجاتهم بالزنا، { ولم يكن لهم شهداءُ } أي: لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به { إلا أنفسهُمُ }، جُعِلوا من جملة الشهداء؛ إيذاناً بعدم قبول قولهم بالمرة، { فشهادةُ أحدهم } أي: فالواجب شهادة أحدهم { أربعُ شهادات بالله } يقول أشهد بالله { إنه لمن الصادقين } فيما رماها به من الزنا. { والخامسةُ أنَّ لعنت الله عليه } أي: إنه لعنة الله عليه، أي: يقول فيها: لعنة الله عليه { إن كان من الكاذبين } فيما رماها به. فإذا حلف دُرِىءَ عنه العذاب، أي: دفع عنه الحد، وَإِنْ نَكَلَ: حُدَّ؛ لقذفها.
{ ويدرأُ عنها العذابَ } أي: يدفع عنها الحدَّ { أن تشهدَ أربعَ شهاداتٍ بالله إِنه } أي: الزوج { لمن الكاذبين } فيما رماها به من الزنا، { والخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان } الزوج { من الصادقين } فيما رماها به من الزنا. وذكر الغضب في حق النساء؛ تغليظاً؛ لأن النساء؛ يستعملن اللعن كثيراً، كما ورد به الحديث:
"يُكْثِرْنَ اللعْنَ" ، فربما يجترئن على الإقدام، لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقعه عن قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن؛ ليكون ردعاً لهن.
فإذا حلفا معاً فُرق بينهما بمجرد التلاعن، عند مالك والشافعي، على سبيل التأبيد، وقال أبو حنيفة: حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة؛ فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب.
رُوي أن آية القذف المتقدمة لَمَّا نزلت؛ قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقام عاصم بن عدي الأنصاري، فقال: جعلني الله فداءك، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً، فأخبر بما رأى، جُلِدَ ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً، ولا تقبل شهادته أيضاً، فكيف لنا بالشهداء، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجلُ من حاجته، وإن ضربه بالسيف قُتل؟ اللهم افتح، وخرج فاستقبله هلالُ بن أمية - وقيل: عُوَيْمِر - فقال: ما وراءك؟ فقال: الشر، وجدت على امرأتي خولة - وهي بنت عاصم - شريكَ بن سحماء - فقال عاصم: والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به، فرجعا، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة: فأنكرت، فنزلت هذه الآية، فتلاعنا في المسجد، وفرَّق بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم:
"ارقبوا الولد، إن جاءت به على نعت كذا وكذا، فما أراه إلا كذب عليها، وإن جاءت به على نعت كذا، فما أراه إلا صدق" فجاءت به على النعت المكروه.
قال تعالى: { ولولا فضلُ الله عليكم } أي: تفضله عليكم { ورحمتُه }؛ ونعمته { وأنَّ الله تواب حكيم }، وجواب "لولا": محذوف؛ لتهويله، والإشعار بضيق العبارة عن حصره، كأنه قيل: لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في جميع افعاله وأحكامه، التي من جملتها: ما شرع لكم من حكم اللعان، لكان ما كان، مما لا يحيط به نطاق العبارة، من حد الزوج مع الفضيحة، أو قتل المرأة، أو غير ذلك من العقوبة. قال القشيري: لبقيتم في هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة. هـ.
الإشارة: النفس إذا تحقق فناؤها، وكمل تهذيبها، رجعت سراً من أسرار الله، فلا يحل رميها بنقص؛ لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص، فإن رماها بشيء فليبادر بالرجوع عنه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من رمى أزواج النبي - عليه الصلاة والسلام - في قضية الإفلاء، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ... }