التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ
١٤
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { زُين }: بحذف الفاعل، وهو الله، حقيقة؛ إذ لا فاعل سواه، أو الشيطان، شَريعَةً؛ إذ هو منديل لمسح أوساخ الأقذار. والقنطار: المال الكثير، وقيل: مائة ألف دينار، وقيل: ملء مسك الثور. وروى عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: "القنطار: ألف دينار" ، وفي رواية: "ألفا دينار" ، وفي عرفنا اليوم: ألف مثقال.
والمقنطرة: المنضدة بعضها فوق بعض، وسمي الذهب ذهباً؛ لذهابه وفنائه، أو لذهابه بالقلوب عن حضرة الغيوب، وسميت الفضة فضة؛ لأنها تَنْفَضُّ أي: تنفرق، أو تفرق القلوب لمن اشتغل بها. والمسوَّمة: المعلمة أو الراعية أو المطهمة الحسان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { زُين للناس حب الشهوات } والركون إلى المألوفات، حتى صرفهم ذلك عن النظر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وذلك لمن وقف مع متعتها، وغرته شهوة لذتها، وأما من ذكرته نعيم الجنان، وأعانته على طاعة الملك الديان، فلم يقف مع متعتها، ولا التفت إلى عاجل شهوتها، بل نزل إليها بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فلا يشمله تحذير الآية؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -:
"حُبِّبَ إلِيَّ من دنياكم ثلاث..." الحديث.
وقال بعض الأولياء: [كل شهوة تحجب القلب عن الله، إلا شهوة الجماع] يعني الحلال، وقال الورتجبي: ابتلاهم حتى يظهر الصادق بترك هذه الشهوات، من الكاذب بالشروع في طلبها، قيل: من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن طريق الحق، ومن استصغرها وأعرض عنها، عوض عليها السلامة منها، وفتح له الطريق إلى الحقائق. هـ.
ثم بدأ برأس الشهوات فقال: { من النساء } وذلك لمن شُغف بهن فصرف عن ذكر الله، أو تناولهن على وجه الحرام. وفي الخبر عنه - عليه الصلاة والسلام -:
"مَا تَرَكْتُ في الناس بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" . وفي خبر آخر: "النظر إلى محاسن المرأة من سهام إبليس" . ومَنْ ثَمَّ جُعِلْنَ في القرآن عين الشهوات، قال تعالى: { زيّن للناس حب الشهوات من النساء }.
وقال بعض العارفين: ما أيس الشيطانُ من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء. وقال عليّ رضي الله عنه: أيها الناس، لا تطيعوا للنساء أمراً، ولا تَدَعُوهُنَّ يدبرن أمر عيش، فإنهن إن تُرِكْنَ وما يُرِدْن أفسدن الملك، وعصَين المالك، وجدناهن لا دين لهن في خلَواتهن، ولا ورع لهن عن شهواتهن اللذة بهن يسيرة، والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات، وأما طوالحهن فعاهرات - أي: زانيات -، وأما المعصومات فهن المعدومات، يتظلمن وهن الظالمات، ويتمنعن وهن الراغبات، ويحلفن وهن الكاذبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا على وجل من خيارهن، والسلام. هـ.
{ والبنين }: قال - عليه الصلاة والسلام -:
"إنهم لثمرة القلوب، وقُرَّةُ الأعيُن، وأنهم مع ذلك لَمَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ" . { والقناطير المقنطرة }: أي: المجموعة المنضدة، { من الذهب والفضة. والخيل المسومة } أي: المعلمة: وهي البلق، أو غيرها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "الخَيْلُ معقودٌ في نَواصِيها الخَيْرُ إلى يوْمِ القِيَامةِ، الأجرُ والمَغْنمُ" .
وعن أنس قال: (لم يكن شيء أحب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد النساء، من الخيل). وعن أبي وهب الجشمي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها، وقَلِّدُوها، ولا تقلدوها الأوتار، وعليكم بكل كُمَيْت أغر مُحَجِّلِ، أو أشقر أغر محجل، أو أدهم أغر مُحَجَّل" . وعن خباب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن فما اتخذ لله في سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله، وأما فرس الإنسان فما استطرق عليه" - أي: ركب عليه في طريق حوائجه، "وأما فرس الشيطان فما روهن عليه، وقومر عليه" . وفي البخاري ما يشهد لهذا.
ومما زُيِّن للناس أيضاً: حب { الأنعام }، وهي الإبل والبقر والغنم، إن شغلته عن ذكر الله، ومنع منها حق الله، { والحرث } أي: الزراعة والغراسة، { ذلك } الذي ذكرت { متاع الحياة الدنيا } الفانية الزائلة، { والله عنده حسن المآب }، أي: المرجع في دار البقاء التي لا يفنى نعيمها، ولا تنقطع حياتها إلى أبد الأبد.
الإشارة: كل ما يقطع القلبّ عن الشهود، أوُ يُفَتِّرُهُ عن السير إلى الملك المعبود، فهو شهوة، كائناً ما كان، أغياراً أو أنواراً، أو علوماً أو أحوالاً، أو غير ذلك، فالنساء الأغيار، والبنون الأنوار، والقناطير المقنطرة من الذهب علوم الطريقة، والفضة علوم الشريعة، والخيل المسومة هي الأحوال، والأنعام الأذكار، والحرب استعمال الفكرة. فكل مَنْ وقف مع حلاوة شيء من هذا، ولم يُفْضِ إلى راحة الشهود والعيان، فهي في حقه شهوة.
وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعاً من الشهوات، زَهَّدَ فيها فقال: { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه: وَسَمَ اللّهُ الدنيا بالوحشة؛ ليكون أنس المريد بربه دونها، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون، وإلا الله مشتاقون. هـ.
وقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من شر فتنتها، غناها وفقرها. وأكثرُ القرآن مشتملٌ على ذمها، وتحذير الخلق منها، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها، ورغَّب في الآخرة، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع، وكيف لا - وهي عدوة الله؛ لقطعها طريق الوصلة إليه، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وعدوة لأعدائه؛ لأنها استدرجتهم بمكرها، واقتنصتهم بشبكتها، فوثقوا بها، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها، كفانا الله شرّها بمنِّه وكرمه.