التفاسير

< >
عرض

وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا
١
فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً
٢
فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً
٣
إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ
٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ
٥
إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ
٦
وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ
٧
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
-الصافات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { والصافات صفاً فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذكراً } أقسم بطوائف الملائكة، الصافِّين أقدامهم في مراتب العبادة، كل على ما أمر به، فالزاجرات السحاب سوقاً إلى ما أراد الله، أو: عن المعاصي بإلهام الخير. أو: الشياطين عن التعرُّض لهم. { فالتاليات ذكراً } لكلام الله تعالى من الكتب المنزلة وغيرها، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وفيه رد على ابن الصلاح، حيث قال في فتاويه: إن الملائكة لا تقرأ القرآن، وإنما قراءته كرامة أكرم الله بها البشر. قال: فقد ورد أن الملائكة لم تُعط ذلك، فهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، كما نقله عنه في الإتقان، فانظره.
أو: بنفوس العلماء والعمال، الصافات أقدامها في التهجُّد وسائر الصلوات، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح، فالتاليات آيات الله، والدراسات شرائعه. أو: بنفوس الغزاة في سبيل الله، التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك، لا يشغلهم عنه مبارزة العدو. و { صفاً }: مصدر مؤكد، وكذلك { زجراً }، والفاء تدلُّ على الترتيب، فتفيد فضل المتقدم على المتأخر، فتفيد الفضل للصف، ثم للزجر، ثم للتلاوة، أو بالعكس.
وجواب القسم: { إِنَّ إِلهكم لواحدٌ } لا شريك معه يستحق أن يُعبد، { وربُّ السماواتِ والأرضِ } وهو خبر بعد خبر، أو: خبر عن مضمر، أي: هو { ربُّ السماوات والأرض وما بينهما وربُّ المشارق } أي: مطالع الشمس، وهي ثلاث مائة وستون مشرقاً، وكذلك المغارب. تُشرق الشمس كلّ يوم في مشرق منها، وتغرب في مغرب، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين. وأما:
{ { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن: 17] فإنه أريد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وأما: { { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [المزمل: 9] فإنه أريد به الجهة، فالمشرق جهة، والمغرب جهة. قال الكواشي: لم يذكر المغارب؛ لأن المشارق تدل عليها.
{ إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا } القُربى منكم، تأنيث الأدنى، { بزينة الكواكب } بالإضافة، أي: بأن زينتها الكواكب ومَن قرأ بالتنوين والخفض فبدل، أي: هي الكواكب، ومَن قرأ بالنصب فعلى إضمار "أعني"، أو: بدل من محل "بزينة" أي: زيَّنَّا الكواكب، أو: على إعمال المصدر منوناً في المفعول، أي: بتزيُّن الكواكب. قال البيضاوي: وركوز الثوابت في الكُوة الثامنة، وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينهما وبين سماء الدنيا إن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة، متلألئة على سطحها الأزرق. هـ.
{ وحِفْظاً } من الشياطين، كما قال:
{ { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلْشَّيَاطِينِ } [الملك: 5] أو: بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظاً { من كل شيطانٍ ماردٍ } خارج عن الطاعة، فيُرمي بالشهب. { لا يسَّمَّعون إِلى الملأ الأعلى }: استئناف؛ لبيان حالهم، بعد بيان حفظ السماء منهم، ولا يجوز وصفه لكل شيطان؛ لأنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. والضمير لكلٍّ باعتبار المعنى؛ لأنه في معنى شياطين، وتعدية { يسمعون } بإلى لتضمُّنه معنى الإصغاء؛ مبالغة في نفيه، وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ومَن قرأ بالتشديد فأصله: "يتَسمَّعون" فأدغم. والتسمُّع: طلب السماع. يقال: تسمّع فسمع أو لم يسمع إذا منعه مانع. والملأ الأعلى هم: الملائكة؛ لأنهم في السموات العُلى، والإنس والجن هم الملأ الأسفل؛ لأنهم سكان الأرض { ويُقْذَفُون } يُرمون بالشُهب، { مِن كل جانبٍ } من جميع جوانب السماء، من أيّ جهة صعدوا للاستراق.
{ دُحُوراً } مفعول له، أي: ويُقذفون للدحور، وهو الطرد، أو: مدحورين، على الحال، أو: لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى، فيكون مصدراً له، فكأنه قيل: ويُقذفون قذفاً، { ولهم عذابٌ } آخر { واصبٌ } دائم، أو شديد، وهو عذاب الآخرة، أو: عذاب الدنيا؛ لأنه دائم الوجوب؛ لأنهم في الدنيا مرجمون بالشهب دائماً، { إِلا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ } "مَنْ": بدل من ضمير "يسمعون"، أي: لا يتسمّع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الخطفةَ، أي: اختلس شيئاً من كلام الملائكة بسرعة، { فَأَتْبَعه شِهَابٌ ثاقبٌ } أي: نجم مضيء يثقبه، أو يحرقه، أو يخبله، ومنه تكون الغيلان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أقسم الحق تعالى بصفوف الذاكرين، الزاجرين للخواطر عن قلوبهم، في طلب الحضور، التالين لذكر ربهم لرفع الستور، إنه منفرد في ألوهيته، متوحِّد في ربوبيته؛ إذ هو ربُّ كل شيء، ربُّ سموات الأرواح، وربُّ أرض النفوس والأشباح، وربُّ مشارق أنوار العرفان، وهي قلوب أهل العيان، ولم يذكر المغارب؛ لأن شمس القلوب إذا طلعت ليس لها مغيب.
قوله تعالى: { إِنا زَيَّنا السماءَ الدنيا... } إلخ، قال القشيري: زيَّن السماء بالنجوم، وزيَّن قلوب أوليائه بنجوم المعارف والأحوال. هـ. وقوله تعالى: { وحِفظاً من كل شيطان مارد } قال القشيري: كذلك حفظ القلوب بأنوار التوحيد، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمَهَا بنجوم معارفهم، إلا مَن خَطِفَ الخطفة، كذلك إذا اغتنم الشيطان من الأولياء أن يُلْقِيَ شيئاً من وساوسه؛ تَذَكَّروا، فإذا هم مُبْصِرون. هـ.
وقال في لطائف المنن: إن الله تعالى إذا تولى وليًّا صان قلبه من الأغيار، وحرسه بدوام الأنوار، حتى لقد قال بعض العارفين: إذا كان سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشُّهب؛ كي لا يسترق السمع منها، فقلبُ المؤمن أولى بذلك، لقول الله سبحانه، فيما يحكيه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لم تسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن" . والمراد: المؤمن الكامل، الذي تولّى الله حفظه، وهو الولي العارف.
ثم ردّ على من أنكر البعث بعد هذه الدلائل الباهرة، فقال: { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ... }