التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧
ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨
-الزمر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { أن يعبدوها }: بدل اشتمال من "الطاغوت"، والطاغوت: فعلوت، من الطغيان، بتقديم اللام على العين، وأصله: طغيوت، ثم طيغوت، ثم طاغوت.
يقول الحق جلّ جلاله: { والذين اجتنبوا الطاغوتَ } أي: البالغ أقصى غاية الطغيان، وهو الشيطان { أن يعبدُوها } أي: اجتنبوا عبادة الطاغوت، الذي هو الشيطان، أو: كل ما عُبد من دون الله، وكل مَن عَبَد غيرَ الله فإنما عَبَد الشيطان؛ لأنه هو المزيّن لها، والحامل عليها. { وأنابوا إِلى الله } أي: وأقبلوا إليه، معرضين عما سواه، إقبالاً كليّاً، { لهم البُشرى } بالنعيم المقيم، على ألسنة الرسل والملائكة، عند حضور الموت، وحين يُحشرون، وبعد ذلك.
{ فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القولَ } أي: ما نزل من الوحي { فيتبعون أحسَنَه }؛ أرجحه وأكثره ثواباً، أو: أبْينه، الذي هو ضد المتشابه. وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت، والإنابة إلى ربهم، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر؛ تشريفاً لهم بالإضافة، ودلالةً على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقاداً في الدين، يُميِّزون الحق من الباطل، ويُؤثرون الأفضل.
{ أولئك } المنعوتون بتلك المحاسن الجميلة؛ هم { الذين هداهُمُ الله } لدينه، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذان بعلو رتبهم، وبُعد منزلتهم في الفضل. { وأولئك هم أولوا الألبابِ } أي: هم أصحاب العقول الصافية، السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى، المستحقون للهداية، لا غيرهم.
وفيه دليل على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى، لقوله: { هداهم الله }، وقبول النفس لها؛ لقوله: { هم أولوا الألباب }.
الإشارة: مذهب الصوفية: الأخذ بالعزائم، والأرجح من كل شيء، عقداً، وقولاً، وعملاً، فأخذوا من العقائد مقام العيان، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها، ويجمع ذلك: حسن الخلق مع كل مخلوق، فآثروا العفو على القصاص، والصفح على العتاب، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها، ومن الأذكار: أرجحها وأجمعها، وهو الاسم المفرد، الذي هو سلطان الأسماء، ومن الأعمال: أعظمها وأرجحها، وهو عمل القلوب، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، كعبادة الفكرة والنظرة، وفي الحديث:
"تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة" ، فأوقاتهم كلها ليلة القدر، وكالتخلُّق بمكارم الأخلاق، كالرضا، والتسليم، والحلم، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من محاسن الخِلل، الذي هو من عمل القلوب، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله: { فبشِّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }.
وقال الورتجبي ـ بعد كلام: ويَتبع الكلام الأزلي ـ الذي هو الخطاب ـ بالفهم العجيب، والعلم الغريب، والإدراك الصافي، وانفراد الحق عن المخلوق، في المحبة، والشوق، والمعرفة، والتوحيد، والإخلاص، والعبودية، والربوبية، والحرية، فهذا أفضل وِرد بالبديهة، من حيث ظهور الأنباء العجيبة، والروح القدسية، والإلهامات الربانية.. انظر بقية كلامه. وقال القشيري: الاستماع يكون لكل شيء، والاتباع يكون للأحسن. ثم قال: مَن عرف الله لا يسمع إلا بالله. هـ. { أولئك الذين هداهم الله } إلى صريح معرفته العيانية. { وأولئك هم أولوا الألباب }، ولب الشيء: قلبه وخالصه، فقلوبهم خالصة لمولاهم، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها، وأسرارهم متنزهة في رياض ملكوت سيدها. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ضدهم، فقال: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ }.