التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: المراغَم: المهرب والمذهب. قاله في القاموس. وقال البيضاوي: يجد متحولاً، من الرغام وهو التراب. وقيل: طريقًا يراغم قومه بسلوكه فيها، أي: يفارقهم على رغم أنوفهم، وهو أيضًا من الرغام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ومن يهاجر في سبيل الله } لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، { يجد في الأرض } فضاءً كثيرًا، ومتحولاً كبيرًا يتحول إليه، وسعة بدلاً من ضيق ما كان فيه، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه، أو سعةٌ في الرزق، وبسطًا في المعيشة، فلا عذر له في المقام في مكان مُضَيَّقٍ عليه فيه في أمر دينه، { ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله } وجهادٍ في سبيله، { ثم يُدركه الموت } قبل وصوله فقد ثبت أجرُه، ووجب على الله ـ وجوب امتنان ـ أن يبلغه قصده بعد موته، { وكان الله غفورًا } لما سلف له من عدم المبادرة، { رحيمًا } به، حيث بلَّغه مأمولَه.
نزلت في جُندع بن ضَمرة، وكان شيخًا كبيرًا مريضًا، فلما سمع ما نزل في شأن الهجرة قال: والله ما أنا ممن استثنى الله، ولي مال يُبِلغني المدينة، والله لا أبيتُ الليلة بمكة، اخرجُوا بي، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها، فَصفَّق بيمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أُبايعك على مَا بَايَعَك عليه رسولك، فمات حَمِيدًا. فقال الصحابة: لو وافَى المدينةَ، كان أتم أجرًا، وضحك المشركون، وقالوا: ما أدرك ما طلب. فنزلت: { ومن يخرج من بيته... } الخ.
وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حيَّةٌ في الطريق، فمات قبل أن يصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه، طلبًا للوصول إلى حضرة مولاه، يجد في أرض نفسه متسعًا للعلوم، ومفتاحًا لمخازن الفهوم، وسعة الفضاء والشهود، حتى ينطوي في عين بصيرته كلُّ موجود، ويتحقق بشهود واجب الوجود. ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموت قبل التمكين، فقد وقع أجره على الله، وبلَّغه الله ما كان قَصَدَه وتمنُّاه، فيُحشر مع الصديقين أهلِ الرسوخ والتمكين، التي تلي درجتُهم درجةَ النبيين، وكذلك من مات في طلب العلم الظاهر ولم يدركه في حياته، حشِر مع العلماء، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
" من جاءَه أجله وهو يطلبُ العلمَ لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة" . قلت: وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هي درجة الصديقين المتقدمة قبله.
وكل من مات في طلب شيء من الخير، أدركه بعد موته بحسن نيته، كما في الأحاديث النبوية، قال القشيري: المهاجر في الحقيقة، من هاجر نفسه وهواه، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده، فمن قصَده ـ أي قصد الحق تعالى ـ ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله، فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه. هـ. وفي بعض الآثار: الهجرة هجرتان: هجرة صُغرى، وهجرة كبرى، فالصغرى: انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي، والكبرى: انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها. هـ.