التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٥٥
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
١٥٦
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
١٥٧
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٥٨
-النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { فبما }: صلة زيدت للتأكيد، و { نقضهم }: مصدر مجرور بالباء، وهي متعلقة بالفعل المحذوف، أي: بسبب نقضهم فَعَلنا بهم ما فعلنا، أو بقوله: { حرَمنا عليهم }، ويكون { فبظلم } على هذا بدلاً من قوله: { فبما نقضهم }، فيكون التحريم بسبب النقض، وما عطف عليه. والاستثناء في قوله: { إلا اتباع الظن } منقطع؛ إذ العلم يناقض الظن.
يقول الحقّ جلّ جلاله: فلما أخذنا على بني إسرائيل العهد والميثاق خالفوا ونقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا، بسبب نقضهم ميثاقهم، أو بسبب نقضهم وكفرهم { حرمنا عليهم طيبات أُحِلّت لهم }، وبسبب كفرهم أيضًا { بآيات الله }؛ القرآن، أو بما في كتبهم، { وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم غلف } أي: مغلفة لا تفقه ما تقول.
قال تعالى في الرد عليهم: { بل طبع الله عليها بكفرهم }، فجعلها محجوبة عن العلم، بأن خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ، { فلا يؤمنون إلا قليلاً } منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، أو إيمانًا قليلاً لا عبرة به لنقصانه، { وبكفرهم } أيضًا بعيسى عاقبناهم وطبعنا على قلوبهم، { وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا } أي: نسبتها للزنى وبقولهم: { إن قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي بزعمه، ويحتمل أنهم قالوه استهزاء، ونظيره:
{ { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشُّعَرَاء:27]، أو يكون استئنافًا من الله بمدحه، أو وضعًا للذكر الحسن موضع قولهم القبيح. قاله البيضاوي.
ثم رد الله تعالى عليهم فقال: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم } رُوِي أن رهطًا من اليهود سبوه هو وأمه، فدعا عليهم، فمُسخوا قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فقال لهم: يا معشر اليهود، إن الله يبغضكم، فغضبوا وثاروا ليقتلوه، فبعث الله تعالى جبريل فأدخله خُوجة فيها كُوة في سقفها، ورفعه الله إلى السماء من تلك الكوة، فأمر اليهود رجلاً منهم يقال له: طيطانوس، أن يدخل الخوخة ويقتله، فما دخل الخوخة، لم ير عيسى، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه، فلما أبطأ عليهم دخلوا عليه، فطنوه عيسى، فقتلوه وصلبوه.
وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى عليه السلام، وكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه ذلة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة، فهو معهم في السماء إنسيًا ملكيًا، أرضيًا سماويًا.
{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه } فقال بعض اليهود: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ ويقال: إن الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى على صاحبهم، ولم يلق عليه شبه جسده، فلما قتلوه ونظروا إليه، فقالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد صاحبنا. { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } أي: لا علم لهم بقتله، لكن يتبعون الظن فقط. { وما قتلوه } قتلاً { يقينًا } كما زعموا بقولهم: إن قتلنا المسيح، { بل رفعه الله إليه } فهو في السماء الثانية مع يحيى عليه السلام، { وكان الله عزيزًا حكيمًا } أي: قويًا بالنقمة على اليهود، حكيمًا فيما حكم عليهم من اللعنة والغضب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله، كحفظ حرمتهم، والوقوف مع أوامرهم، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم، والدنو منهم، والسعي في خدمتهم. وبالله التوفيق.