التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
١٦٣
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً
١٦٤
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٦٥
-النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: من قرأ { زبورًا } بالفتح، فالمراد به كتاب الزبور، ومن قرأ بالضم، فجمع " زِبر "؛ بكسر الزاي وسكون الباء بمعنى مزبورًا، أي: مكتوبًا، أي آتينا داود كتبًا متعددة، و { رسلاً }: منصوب بمحذوف دل عليه، { أوحينا }، أي: أرسلنا رسلاً، أو يفسره ما بعده، أي: قصصنا عليك رسلاً، و { رسلاً مبشرين }: منصوب على البدل، أو على المدح، أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال الموطئة لما بعده، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { إنا أوحينا إليك } يا محمد { كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا، فأمرك كأمرهم. وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم، وأول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك وأول رسول عُذبت أمته بدعوته، وأطول الأنبياء عُمرًا، وجُعلت معجزته في نفسه، فإنه عمَّر ألف سنة، ولم تنقص له سن، ولم تنقص له قوه، ولم تشب له شعرة، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه.
ثم قال تعالى: { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } أي: الأحفاد، وهم أنبياء بني إسرائيل، { وعيسى وأيوب وهارون وسليمان }، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم، وآخرهم عيسى عليه السلام، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم، { وآتينا داود زبورًا } أي: كتاب الزبور، أو زُبورًا أي: صحفًا متعددة، وأرسلنا { رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } أي: من قبل هذه السورة، أو قبل هذا اليوم، { ورسلاً لم نقصصهم عليك }، وفي الحديث:
" "عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر" "، { وكلم الله موسى تكليمًا } حقيقيًا، خُصَّ به من بين الأنبياء، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام.
قال الورتجبي: بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا، وتحمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب. قال تعالى:
{ فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ } [النجم:10،11]. هـ. وقال ابن عطية: كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام. هـ.
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال: أرسلنا { رسُلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد } بعث { الرسل } فيقولون: لولا أرسلت إلينا رسولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك، فقطع عذر العباد ببعث الرسل، وقامت الحجة عليهم، وفي الحديث عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
" "مَا أحدٌ أغيرَ مِنَ الله، ولذلكَ حرَّم الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنهَا وما بَطَنَ، وما أحدٌ أحبَّ إليهِ المدحُ من الله، ولذلكَ مدَحَ نفسَهُ، وما أحَدٌ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ الله تعالى، ولذلِكَ أرسَلَ الرَّسلِ وأنزَلَ الكُتبَ " .
{ وكان الله عزيزًا } لا يغلب، فلا يجب عليه شيء، { حكيمًا } فيما دبر من النبوة، وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز على ما يليق به في زمانه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، العارفون منهم كالرسل منهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه:

فَعَالِمُنَا منهم نبي، ومَن دَعَاإلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه
وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ منأولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه

فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة، فيسمعون من الحق كما ينطقون به. كما قال الششتري:

أنَا باللهِ أنطقُومِنَ الله أسمَع

فتارة يسمعون كلامه بالوسائط، وتارة من غير الوسائط، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم: التسليم.

إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّملأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ

وفي الورتجبي: وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه، فيسمع به كلامه، كما حكى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنه ـ تعالى ـ، قال: "فإذا أحببته كنت معه..." ، الحديث. أسمعه كلامه، وليس هناك الحروف والأصوات، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة، لا من حيث الجمع والتفرقة. انتهى كلامه.
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة، كلام القدرة يبرز من غير اختبار، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه، غائبًا عن اختياره، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية، ومن الجمادات على وجه الكرامة، وكله بحرف وصوت. نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية، قد يكون بلا حرف ولا صوت، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف، فقوله: (بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية...) الخ. إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت. وليس كذلك.
وقوله: (وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء) الخ، معناه: لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء. قلت: لكنهم يثبتونها حكمةً، ويمحونها قدرةً ومشاهدة، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت؛ فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة، كما هو معلوم. والله تعالى أعلم.