التفاسير

< >
عرض

يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
-النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: أصل الغلو: مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غلا بالجارية لحمها وعظمها، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها؛ أي: أقرانها، تغلو غلوًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في عتاب النصارى ـ بدليل ما بعده: { يا أهل الكتاب } الإنجيل { لا تغلوا في دينكم } فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله، أو ابن الله، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا، { ولا تقولوا على الله إلا الحق }، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد.
ثم بيَّن الحق فيه فقال: { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله }، لا كما قالت اليهود: ليس برسول، ولا كما قالت النصارى: إنه الله، أو ابن الله، وإنما هو عبد الله ورسوله، { وكلمته ألقاها إلى مريم } أي: أوصلها إليها وحصلها فيها، وهي كلمة: كن. فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها، { وروح منه } وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ، وسمي النفخ روحًا؛ لأنه ريح يخرج عن الروح، فكانت روحه صادرة من روح القدس، كما قال في آدم:
{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [الحِجر:29]، وقد قال: { { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [آل عِمرَان:59]، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق؛ لأن الواسطة محذوفة عند المحققين، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السلام.
{ فأمنوا بالله ورسوله } أي: وحدوا الله في إلوهيته، { ولا تقولوا ثلاثة } أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، { انتهوا } عن التثليث يكن { خيرًا لكم إنما الله إله واحد } في ذاته وصفاته وأفعاله، { سبحانه } أي: تنزيهًا له أن يكون له ولد، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء، { له ما في السماوات وما في الأرض }، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، والعبودية تنافي البُنوة، { وكفى بالله وكيلاً } فلا يحتاج إلى ولد؛ لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه.
واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، ومرقوسية، ومنهم نصارى نجران، فالنسطورية، قالوا في عيسى هو ابن الله، واليعقوبية والملكانية، قالوا هو الله، والمرقوسية قالوا: هو ثالث ثلاثة، وكلهم ضالون.
الإشارة: الغلو كله مذموم، وخير الأمور أوساطها، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
" "لا تُطرُونِي كما أطرَت النَّصَارَى عيسى ابنَ مَريم، ولكن قولوا: عَبدُ اللهِ وَرَسُوله " ، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه، ما لم يخرجه عن طوره، أو ينتقص غيره بمدحه، وفي الإشارة حيث على حفظ مقام التوحيد، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد. وفي ذلك يقول الشاعر:

أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ قلتُ لَهُ: لَيسَ ذَاكَ عِندِي
فَقَالَ ما عِندَكُم؟ فقُلنَا:وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد

فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية، ولذلك أنكرها الشاعر، أي: أثبت ربًا وعبدًا، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحِكَم: " الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته ".
ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تعيب صاحبنا؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ
"ومن صاحبكم؟" قالوا: عيسى. قال : " وأي شيء أقول؟" قالوا: تقول إنه عبد الله. قال لهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ: " ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدًا "