التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
٨٨
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٨٩
إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
٩٠
-النساء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

{ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً... }
قلت: { فئتين }: حال، والعامل فيه: الاستقرار في الجر، وأركس الشيء نكَّسه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: معاتبًا الصحابة حين اختلفوا في إسلام بعض المنافقين، فقال: { فما لكم } افترقتم { في } شأن { المنافقين } فرقتين، ولم تتفقوا على كفرهم، والحالة أن الله ـ تعالى ـ { أركسهم }، أي: نكَّسهم وردهم إلى الكفر بعد أن أظهروا الإسلام بسبب ما كسبوا من الآثام. { أتريدون أن تهدموا من أضل الله }، وسبق لهم الشقاء في علم الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: ( نزلت في قومِ كانوا بمكة من المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم بتجارات إلى الشام، فاختلف المسلمون، هل يقتلونهم ليغنموا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو يتركونهم لأنهم مؤمنون؟). وقيل: في قوم أسلموا ثم اجتَوَوا المدينة، واستأذنوا رسول الله صلى عليه وسلم في الخروج إلى البدو، فلما خَرَجُوا لم يزالُوا راحلين مَرحلةٌ حتى لحقُوا بالمُشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم.
ثم حكم بكفرهم فقال { ودّوا لم تكفرون } أي: يتمنون كفركم { كما كفروا فتكونون } معهم { سواء } في الضلال والكفر.
الإشارة: من دخل في طريق المخصوصين الأبرار، ثم لم تساعده رياح الأقدار، فلا ينبغي الكلام فيه، ولا الخوض في شأنه، لأن أمره بيد ربه، ( من يهده الله فلا مضل له)، ومن يضلل فلا ناصر له. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم نهى عن مُوَالاَتهم، فقال:
{ ...فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }
قلت:{ حَصِرت }: أي: ضاقت، والجملة حال من الواو، بدليل قراءة يعقوب (حَصِرَةً).
يقول الحقّ جلّ جلاله: { فلا تتخذوا } من هؤلاء الكفرة { أولياء } وأصدقاء حتى يتحقق إيمانهم، بأن يهاجروا من دار الكفرإلى دار الإسلام { في سبيل الله } وابتغاء مرضات الله، لا لحرف دنيوي، { فإن تولوا } عن إظهار الإيمان بالهجرة { في سبيل الله }، { فخذوهم } أسارى { واقتلوهم حيث وجدتموهم } كسائر الكفرة، وجانبوهم { ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا } أي: لا تستعينوا بهم في جهادكم، { إلاَّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم } عهد، و { ميثاق } أي: مهاندة، فلهم حكم المُعَاهَدِين الذين وصلوا إليهم، ودخلوا معهم في الصلح، فلا تقتلوهم ولا تأسروهم.
وكانت خزاعة وادعت النبي صلى الله عليه وسلم وعقدت معه الصلح، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم في الصلح، فنهى الله عن قتالهم ما داموا معهم، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة، والذي وصلوا إليهم هم بنو مدلج. فالاستثناء على هذا منقطع، لأن بني مدلج حينئٍذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة، ويحتمل أن يكون متصلاً، أي: إلا الذين يصلون منهم...الخ، فتأمل. وكان هذا في أول الإسلام، ثم نُسِخ بقوله:
{ فَأْقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التّوبَة:5] الآية.
ثم ذكر قومًا آخرين نهى عن قتالهم، فقال: { أو جاءوكم } أي: إلاَّ قومًا جاؤوكم، قد { حصرت صدورهم } أي: ضاقت عن { أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم } يعني أنهم كرهوا قتالهم، وكرهوا قتال قومهم الكفار، فلا تقتلوهم أيضًا، لأن الله كفَّ شرهم عنكم، { ولو شاء الله لسلّطهم عليكم } بأن قوَّى قلوبهم وأزال رعبهم { فَلَقَاتَلُكم } ولم يكفّوا عنكم، { فإن اعتزلوكم } ولم يتعرّضوا لكم { وألقوا إليكم السلم } أي: الاستسلام والانقياد { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } أي: طريقًا إلى قتالهم.
الإشارة: نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ، وأمره بالرفق بها، أو كفت عن طغيانها، أو كفى الله أمرها؛ بجذبٍ أخرجها عن عوائدها، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها، فإنه يأتي من حضرة قهار، لا يصادم شيئاً إلا دمغه، وهذه عناية من الرحمن، ولو شاء تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان، فتجمح به في ضَحضَاح النيران، فإن كفت النفس عن شهواتها، وانقادت إلى حضرة ربها، فما لأحدٍ عليها من سبيل، وقد دخلت في حمى الملك الجليل. والله تعالى أعلم.