التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
-فصلت

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { إِن الذين قالوا ربُّنا الله } أي: نطقوا بالتوحيد واعتقدوا، { ثم استقاموا } أي: ثبتوا على الإقرار ومقتضياته من حسن الأعمال، وعن الصدّيق رضي الله عنه: استقاموا فعلاً، كما استقاموا قولاً. وعنه: أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: لم يَرُوغوا رَوَغان الثعالب، أي: لم ينافقوا. وعن عثمان رضي الله عنه: أحكموا العمل، وعن عليّ رضي الله عنه: أدُّوا الفرائض. وعن الفُضيل: زهدوا في الفانية، ورغبوا في الباقية. قلت: ويجمعها الإقرار بالربوبية، والقيام بوصائف العبودية.
{ تَتَنزَّلُ عليهم الملائكةُ } عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، أو: في الدنيا بإلهام الخير وشرح الصدر، وإعانتهم على الأمور الدينية، كما أن الكفرة تقويهم ما قُيض لهم في قرناء السوء. والأظهر: العموم. { ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا } فـ "أن" مخففة، أو: تفسيرية، أي: لا تخافوا ما تٌقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم، فالخوف: غم يلحق لتوقع مكروه، والحزن: غم يلحق لفوات نافع، أو حضور ضارٍّ. والمعنى: أن الله تعالى كتب لكم الأمنَ من كل غم، فلن تذوقوه أبداً. { وأبْشِروا بالجنة التي كنتم تُوعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل. وقال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمة، عند مفارقة الأرواح الأبدان، ألا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان، التي تُوعدون في سالف الأزمان.
{ نحن أولياؤُكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة }، كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين. { ولكم فيها ما تشتهي أنفسُكم } من فنون الطيبات، { ولكم فيها ما تَدَّعون }؛ ما تتمنون، افتعال من الدعاء، بمعنى الطلب، { نُزُلا }: حال من مفعلو "تَدّعون" المحذوف، أو: من "ما"، والنُزُل: ما يقدم للنزيل، وفيه تنبيه على أن ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم النعيم كالنُزُل للضيف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الذين أقرُّوا بقهرية الربوبية، وقاموا بوظائف العبودية، تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة الأبدية. قال القشيري: فأما الاستقامة فهي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها، من غير إخلالٍ بشيء من أقسامها.
ثم قال: مَن كان له أصل الاستقامة، وهي التوحيد، أَمِنَ من الخلود في النار، ومَن كان له كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد، من غير أن يلحقه سوء بحالٍ. ويقال: استقاموا على دوام الشهود، وانفراد القلب بالمعبود، أو: استقاموا في تصفية العقد، ثم في توفية العهد، ثم في صحة القصد، بدوام الوجد، أو: استقاموا بأقوالهم، ثم بأعمالهم، ثم بصفاء أحوالهم، في وقتهم وفي مآلهم، أو: داموا على طاعته، واستقاموا في معرفته، وهاموا في محبته، وقاموا بشرائط خدمته. واستقامة العابد: ألا يعود إلى الفترة واتباع الشهوة، ولا يدخله رياء ولا تصنُّع، واستقامةُ العارف: ألا يشوب معرفته حظ في الدارين، فيحجب به عن مولاه، واستقامةُ المحبين: ألا يكون لهم أرب من غير محبوبهم؛ يكتفون من عطائه ببقائه، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده. هـ.
وقوله تعالى: { تتنزل عليهم الملائكة } أي: تمدهم بالاهتداء والأنوار، وتلهمهم العلوم والأسرار، في مقابلة تقييض الغافل بالقرناء الأشرار، فكما أن الغافل يخذل بتسليط الغواة في الدارين، كذلك العارف يُمد ويُنصر من قِبل الملائكة في الدارين.
وقوله تعالى: { ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا } أي: حيث وجدتم الله لا تخافوا من شيء، ولا تحزنوا على فوات شيء، إذ لم يفتكم شيء، وماذا فقط من وجده؟
قال القشيري: لا تخافوا من عزلة الولاية، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية، وأبشروا بحسن العناية، أو: لا تخافوا مما أسلفتم، ولا تحزنوا على ما خلَّفتم، وأبشروا بالجنة التي وعدتم. أو: لا تخافوا المذلَّة، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الزلَّة، وأبشروا بدوام الوصلة. هـ.
ثم قال في قوله تعالى: { نحن أولياؤكم }: الولاية من الله تعالى بمعنى المحبة، وتكون بمعنى النصرة، وهذا الخطاب بقوله: { نحن أولياؤكم }، يحتمل أن يكون من قِبَلِ الملائكة، الذين يتنزلون عليهم، ويحتمل أن يكون ابتداء خطابٍ من الله تعالى، والنصرة تصدر من المحبة، ولو لم تكن المحبة الأزلية لم تكن تحصل النصرة في الحال. هـ. وكونه من الملائكة أظهر، كما تقدّم. والله تعالى أعلم.
ولمَّت ذكر حال أهل الاستقامة، ذكر حال مَن دعا إليها، أو: نقول: لمَّا ذكر حال أهل الكمال فقط، ذكر أهل الكمال والتكميل، فقال: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ }.