التفاسير

< >
عرض

فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
١٩
-محمد

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { فاعلم أنه لا إِله إِلا اللّهُ } أي: إذا علمت أن مدار السعادة، والفوز بالنعيم في دار البقاء هو التوحيد والطاعة، ومناط الشقاء والخسران في دار الهوان هو الإشراكُ والعصيان، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد، واعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله، فلا يستحق العبادة غيره، { واستغفر لذنبك } وهو ما قد يصدر منه صلى الله عليه وسلم من خلاف الأولى، عبّر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل، كيف لا، وحسنات الأبرار سيئات المقربين؟ فكل مقام له آداب، فإذا أخلّ بشيء من آدابه أُمر بالاستغفار، فلمقام الرسالة آداب، ولمقام الولاية آداب، ولمقام الصلاة آداب، وضعفُ العبودية لا يقوم بجميع حقوق الربوبية، قال تعالى: { وَمَا قٌدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر: 67]. وبالجملة فالقيام بالآداب مع الله - تعالى - على ما يستحقه - سبحانه - حتى يُحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة الربوبية محال عادة، قال صلى الله عليه وسلم مع جلالة منصبه: "لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" فكل ما قَرُبَ العبدُ من الحضرة شُدّد عليه في طلب الأدب، فإذا أخذته سِنةٌ أُمر بالاستغفار، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس سبعين مرة، أو مائة، على ما في الأثر.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، بعد كلام: والحق أن استغفاره صلى الله عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع، لا طلب العفو بعد الوقوع، وقد أخبره تعالى بأنه فعل. وقد يُقال: استغفار تعبُّد لا غير. قال: والذي يظهر لي أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له؛ إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة، لا مع الوعد، وذلك حقيقةٌ، والوقوف مع الوعد شريعة. وقال الطيبي: إذا تيقنت أن الساعة آتية، وقد جاء أشراطها، فخُذ بالأهم فالأهم، والأَولى فالأَولى، فتمسّك بالتوحيد، ونزِّه اللّهَ عما لا ينبغي، ثم طَهِّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك، مِن ترك الأَولى، فإذا صِرت كاملاً في نفسك فكن مكمِلاً لغيرك، فاستغفر { للمؤمنين والمؤمنات } . هـ. أي: استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم، وترغيبهم فيما يستدعي غفران ذنوبهم.
وفي إعادة الجار تنبيه على اختلاف معلّقيْه؛ إذ ليس موجبُ استغفاره صلى الله عليه وسلم كموجب استغفارهم، فسيئاته - عليه السلام - فرضاً حسناتهم. وفي حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه - أي: ولذنب المؤمنين - إشعار بعراقتهم في الذنوب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار.
{ واللّهُ يعلم متقلَّبكم ومثواكم } أي: يعلم متقلبكم في الدنيا، فإنها مراحل لا بد من قطعه، ويعلم مثواكم في العقبى؛ فإنها مواطن إقامتكم، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما، فبادِروا إلى الامتثال لما أمركم به، فإنه المهم لكم، أو: يعلم متقلبكم: في معايشكم ومتاجركم، ومثواكم: حيث تستقروا في منازلكم، أو متقلبكم: في حياتكم، ومثواكم: في القبور، أو: متقلبكم: في أعمالكم الحسنة أو السيئة، ومثواكم: من الجنة أو النار، أو: يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها، فمثله حقيق بأن يُخشى ويُتقى ويُستغفر.
الإشارة: قال القشيري: قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فاعلم أنه لا إِله إلا الله } وكان عالماً، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته، وذلك في الثاني من حاله في ابتداء العلم، لأن العلم أمر، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد، فكل لحظة يأتي فيها علم. ويقال: كان له علم اليقين، فأُمِر بعين اليقين، فأُمِر بعين اليقين، أو: كان له عيه اليقين، فأُمر بحق اليقين. ويقال: قال صلى الله عليه وسلم:
"أنا أعملكم بالله وأخشاكم له" فنزلت الآية، أي: أُمر بالتواضع. وهنا سؤال: كيف قال: "فاعلم" ولم يقل صلى الله عليه وسلم بعدُ: علمتُ، كما قال إبراهيم حين قال له: { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ } [البقرة: 131] ويُجاب: بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله: { ءَامَنَ الرَّسُولُ } [البقرة: 285] والإيمان هو العلم، فإخبارُ الحق تعالى عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله: علمته.
ويُقال: إبراهيم عليه السلام لما قال: { أسلمتُ } ابتلي، ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يقل علمت، فعُوفي، ويقال: فرق بين موسى، لمَّا احتاج إلى زيادة العلم أُحيل على الخضر، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال له:
{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } [طه: 114] فكم بين مَن أُحيل في استزادة العلم على عبد، وبين مَن أُمِر باستزادة العلم من الحق. ويقال: إنما أمره بقوله: { فاعلم } بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق، ثم بالانقطاع منه إليه، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة، والغفلة عن الحقيقة، وهي نصف البيان؛ فليس لهذا القول كبيرُ قيمةٍ، وهذا إذا تعجب من شيء فذكر هذه الكلمة، فليس له قَدْرٌ، وإذا قاله مخلصاً ذاكراً لمعناها، متحققاً بحقيقتها، فإن قاله بنفسه فهو في وطن التفرقة، وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفيِّ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص، والعبد أولاً يعلم ربه بدليل وحُجةٍ، فعلمه بنفسه ضروري، وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي. ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان، وزيادة الحُجج، ويتناقض علمه بنفسه لغَلَبة ذكرِ الله بقلبه عليه، فإذا انتهى لحال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه، صار علمه في تلك الحالة ضرورياً، ويقِل إحساسه بنفسه، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال، وكأنه غافلٌ عن نفسه، أو ناسٍ لنفسه، ويُقال: الذي في البحر غلب عليه ما يأخذه من الرؤية عن ذكر نفسه، فإذا ركب البحر فرَّ من هذه الحالة، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه مستهلَك. هـ.
قلت: لا مدخل للحجج هنا، وإنما هو أذواق وكشوفات، فالصواب أن يقول: ثم تزداد قوة علمه، بزيادة الكشف والذوق، حتى يغيب عن وجوده، بشهود معبوده، فيتناقض علمه، فيصير علمه بالله ضرورياً، وعلمه بعدم وجوده ضرورياً، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: { واستغفر لذنبك } قال الورتجبي عن الجنيد: أي: اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا، عَلِمتنا، وإياك أن ترى نفسَك في ذلك، فإن خطر بك خاطر غَيْرٍ، فاستغفر من خاطرك، فلا ذنب ولا خطب أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا، ولو في خطرة ونفَس، ثم قال عن الأستاذ القشيري: إذا علمت أنك علمته فاستغفر لذنبك من هذا؛ فإن الحق علا جلال قدره أن يعلمه غيره. هـ. قلت: وحاصله: أنَّ استغفاره صلى الله عليه وسلم ما عسى أن يخطر بباله رؤية وجوده، كما قال الشاعر:

وجُودك ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِه ذَنْبُ

فَلاَ وُجوُدَ لِلْغَيْرِ مَعَهُ أَصْلاً، فهو الذي عَرف نفسه بنفسه، ووحّد نفسه بنفسه، وقدّس نفسه بنفسه، وعظّم نفسه بنفسه، كما قال الهروي رضي الله عنه حين سُئل عن التوحيد الخاص:

مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحد إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوحِيدُ مَنْ يَنْطِق عَنْ نَعْتِه عَارِيَةٌ أَبْطَلَها الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُه إِيّاه توحِيدُه وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لأحِدْ

ثم ذكر حال المؤمنين والمنافقين عند نزول الوحي، فقال: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ }.