التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { السارق }: مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه، وهو الجار والمجرور، أي: مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، وقال المبرد: الخبر هو جملة: { فاقطعوا }، ودخلت الفاء لمعنى الشرط؛ لأن الموصول ـ وهو " ألـ"ـ فيه معنى الشرط، ومثله: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَأجْلِدُواْ } [النُّور: 2]، قلت: وهو أظهر، فإن قلت: ما الحكمة في تقديم المُذكر في هذه الآية، وفي أية الزنا قدم المؤنث، فقال: { الزَّانِيَهُ وَالزَّانِى } ؟ فالجواب: أن السرقة في الرجال أكثر، والزنى في النساء أكثر، فقدّم الأكثر وقوعًا. وقدّم العذاب هنا على المغفرة، لأنه قابل بذلك تقدم السرقة على التوبة، أو لأن المراد به القطع، وهو مقدم في الدنيا، و { جزاء } و { نكالاً }: علة أو مصدر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } أي: أيمانهما من الرسغ، بشروط، منها: ألاَّ يكون مضطرًا بالجوع، على قول مالك، فيقدم السرقة على الميتة، إن عُلِم تصديقه. ومنها: ألاَّ يكون السارق أبًا أو عبدًا سرق مال ولده أو سيده. ومنها: أن يكون سرق من حرز، وأن يكون نِصَابًا، وهو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما يساويهما عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال عثمان البَتى: يُقطع في درهم فما فوق. وفي السرقة أحكام مبسوطة في كتب الفقه.
وعلة القطع: الزجر، ولذلك قال: { جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم }. فإن قلت: ما الحكمة في قطعها في ربع دينار، مع أن دِيتَهَا أن قطعت، خمسمائة دينار؟ قلت: ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة. فافهم حكمة الباري.
{ فمن تاب من بعد ظلمه } أي: بعد سرقته، كقوله في سورة يوسف:
{ { كَذَلِكَ نَجْزِي الَّظالِمِينَ } [يُوسُف:75] أي: السارقين، { وأصلح } بأن ردّ ما سرق، وتخلص من التبعات ما استطاع، وعزم ألا يعود { فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم }، فيتقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع: فهل يسقط، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية، أو لا يسقط، وهو مذهب مالك، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب؟... قاله ابن جزي، تبعًا لابن عطية، وفيه نظر، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك، ولعله تصحف عنده الشافعي بالشعبي، كما نقل الثعلبي عنه. والله أعلم.
{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } يتصرف فيهما كيف شاء، فالخطاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو لكل أحد، { يُعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } قال السدي: يُعذب من مات على كفره، ويغفر لمن تاب من كفره. وقال الكلبي: { يُعذب من يشاء } على الصغيرة إذا أقام عليها { ويغفر لمن يشاء } على الكبيرة إذا نزع منها، { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء.
الإشارة: كما أمر الحق ـ جل جلاله ـ بقطع سارق الأموال، أمر بقطع سارق القلوب، وهو الشيطان، وجنوده؛ الخواطر الردية؛ فإن القلب بيت كنز السر ـ أي: سر الربوبية ـ لأن القلب بيت الرب، والبصيرة حارسة له، فإذا طرقه الشيطان بجنوده، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها، وأن وجدها نائمة؛ فإن كان نومها خفيفًا اختلس منها وفطنت له، وإن كان نومها ثقيلاً؛ بتراكم الغفلات، خرب البيت ولم تفطن له، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهي نائمة. فالواجب على الإنسان حفظ قلبه، قبل أن يسكنه الشيطان، فيصعب دفعه، وحفظه بدوام ذكر الله القلبي، فإن لم يستطع فبدوام اللسان، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة. وربنا المستعان.
ثم تكلم على ما يتعلق باللسان، وهو الأمر الخامس مما تضمنته السورة، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ }.