التفاسير

< >
عرض

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٩
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١٠
-الأنعام

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { جهد }: مصدر لعامل محذوف، أي: واجتهدُّوا جهد أيمانهم، وهو حال، أي: وأقسموا جاهدين أيمانهم، ومن قرأ: { أنها }؛ بالفتح، فهو مفعول بيُشعركم، أي: وما يُدريكم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون، وقيل: { لا }: مزيدة، أي: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون إذا رأوها، وقيل: أن، هنا، بمعنى لعل. ومَن قرأ بالكسر فهو استئناف، وتم الكلام في قوله: { وما يشعركم } أي: وما يشعركم ما يكون منهم، فعلى القراءة بالكسر، يُوقف على: { ما يشعركم }، وأما على القراءة بالفتح، فإن كانت أنَّ ـ مصدرية لم يوقف عليه؛ لأنه عامل فيها، وإن كانت بمعنى: لعل، فأجاز بعض الناس الوقف، ومنعه بعضهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وأقسموا } أي: المشركون، { بالله } واجتهدوا في أيمانهم، { لئن جاءتهم آية } ظاهرة يشهدونها، { ليُؤمنن بها } وبمن جاء بها، { قل } لهم: { إنما الآيات عند الله } وفي قدرته وإرادته، يُظهرها حيث شاء، وليس في قدرتي منها شيء، { وما يُشعركم } أي: وما يُدريكم أيها المؤمنون، { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } بها، لما سبق لهم من الشقاء، وقد كان المؤمنون يتمنَّون إنزالها طمعًا في إيمانهم، وفيه تنبيه على أنه تعالى إنما لم ينزلها؛ لعلمه بأنها { إذا جاءت لا يؤمنون } بها. وقيل: الخطاب للمشركين، ويتأتى هذا على كسر "إن"، أو على قراءة ابن عامر وحمزة: { لا تؤمنون }؛ بتاء الخطاب، وقرىء: { وما يُشعرهم } بالغيبة، فيكون إنكارًا لهم على حلفهم.
ثم ذكر سبب عدم إيمانهم فقال: { ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم } عند نزول الآية، أي: نصرف قلوبهم ونحولها عن الحق، فلا يفقهون بها، ونقلب أبصارهم عن النظر والتفكر، فلا يُبصرون بها الحق، فيصرفون عن الإيمان بما أنزل إليك { كما لم يؤمنوا به } أي: بما أنزل من الآيات، { أول مرة ونذرهم في طغيانهم } أي: في كفرهم وجحدهم { يعمهون } أي: يتحيرون، فلا نهديهم هداية المؤمنين.
الإشارة: سألني بعض العوام، فقال لي: ليس لكم ولا لأصحابكم كرامات تظهر فيمن آذاكم، فقد كان أصحاب سيدي فلان وفلان يُظهرون الكرامات، وينفذون في من آذاهم؟‍ فقلت له: نحن على قدم نبينا صلى الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين، فقد أُوذي وضُرِب، فلما خيَّره ملكُ الجبال في أن يُطبق عليهم الأخشَبين ـ أي الجَبلَين ـ قال:
"لا، لعل الله تعالى يُخرج منهم مَن يعبُد الله " . وقال حين أكثروا إيذاءه: " اللهُمَّ اغفِر لِقَومي فإنَّهُم لا يَعلَمُون " . فالأولياء المحققون: رحمة للعباد، يتحملون أذاهم، ويتوجهون لمن آذاهم في الدعاء له بالهداية والتوفيق، فهم قوم لا يشقَى جليسهم، جالَسَهم بالإنكار أو بالإقرار، وقد ظهرت الكرامات على بعض الأولياء ولم ينقطع عنهم الإنكار، فإنَّ الإيمان أو التصديق بالنبي أو الولي إنما هو محض هداية من الكبير العلي، كما بيَّن ذلك بقوله: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ }.