التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
١٣٢
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
١٣٣
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ
١٣٤
فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
١٣٥
فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٣٦
وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
١٣٧
-الأعراف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { مهما }: اسم شرط جازم، و { تأتنا }: شرطها، وجملة { فما نحن }:جوابها، قيل: مركبة، وأصلها: "ما" الشرطية، ضُمت إليها "ما" الزائدة، نحو: أينما، ثم قُلبت الألف هاء، والمشهور: أنها بسيطة، ومحلها: رفع بالابتداء، أو نصب بفعل يفسره: "تأتنا" والضمير في: "به" عائد على "مهما".
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وقالوا } أي: فرعون وقومه: { مهما تأتنا به من آيةٍ }، وإنما سموها آية على زعم موسى، لا لاعتقادهم، ولذلك قالوا: { لتسحرنا بها } أي: لتسحر بها أعيينا وتشبه علينا، { فما نحن لك بمؤمنين }. وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم في الكفر.
قال تعالى: { فأرسلنا عليهم الطوفانَ } وهو مطر شديد نزل بهم مع فيض النيل، حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون، وامتنعوا من الزراعة، وقيل: الطاعون، وقيل: الجدري، وقيل الموتان، { والجراد } وهو المعروف، أكل زروعهم وثمارهم، حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم، { والقُمَّلَ } قيل: أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها، وقيل: البراغيث، وقيل السوس، والتحقيق: أنه صغار القراد، دخل ثيابهم وشعورهم ولحاهم، وقرىء: "القَملَ" بفتح القاف وهو القمل المعروف، دخل ثيابهم وامتلأت منها، { والضفادعَ }، وهي المعروفة، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فروشهم وأوانيهم، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فيه. { والدمَ } صارت مياههم دمًا، فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد، فيخرج ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء.
قال البيضاوي: رُوِي أنهم مُطِروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعًا، فقالوا لموسى عليه السلام: أدع لنا ربك بما عهد عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا الله فكشف عنهم، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله، ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب، ففزعوا إليه ثانيًا، فدعا، وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها، فلم يؤمنوا، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه، وكانت تملأ مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم، ففزعوا وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دمًا، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء، فيكون ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دمًا في فيه، وقيل: سلط عليهم الرعاف. هـ.
{ آياتٍ } أي: حال كون ما تقدم آيات { مُفصَّلاتٍ }، مبينات، لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته. قيل: كان بين كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة أسبوعًا، وقيل: إن موسى ثبت فيهم، بعد ما غلب السحرة، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل، { فاستكبروا } عن الإيمان { وكانوا قومًا مجرمين } أي: عادتهم الإجرام.
{ ولمّا وقع عليهم الرَّجزُ } يعني: العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله عليهم بعد ذلك، { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي: بعهده عندك، وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك. والمعنى: ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو بدعائك إليه ووسائلك، { لئن كشفت عنا الرجز }: العذاب { لنُؤمنن لك } أي: أقسمنا بعهد الله لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك { ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل } كما طلبت، قال تعالى: { فلما كشفنا عنهم الرِّجزَ إلى أجل هم بالغوه } إلى حد من الزمان هم بالغوه ثم يُهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت، وقيل: إلى أجل عينوه لإيمانهم، { إذا هم ينكُثُون }؛ جواب "لَمَّا" أي: فلما كشفنا عنهم جاؤوا بالنكث من غير تأمل ولا توقف، { فانتقمنا منهم } أي: فأردنا الانتقام منهم، { فأغرقناهم في اليم } أي: البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته، { بأنهم } أي: بسبب أنهم { كذَّبوا بآياتنا } التي أرسلناها عليهم. { وكانوا عنها غافلين } أي: أغرقناهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون } بالاستعباد وذبح الأبناء { مشارقَ الإرضِ ومغاربها } يعني: أرض الشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتمكنوا من نواحيها { التي باركنا فيها } بالخصب وسعة العيش، وهي أرض الشام. وزاد ابن جزي: ومصر.
{ وتمّتْ كلمةُ ربك الحسنى على بني إسرائيل } أي: نفذت ومضت واستقرت، والكلمة هنا: ما قضى في الأزل من إنقاذهم من عدوهم، وقيل: قوله:
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعفُواْ فِي الأَرْضِ } [القَصَص:5] وكانت حسنى؛ لما فيها من النصر والعز، { بما صبروا } أي: بسبب صبرهم على الشدائد { ودمَّرنا } أي: خربنا { ما كان يصنعُ فرعونُ وقومهُ } من القصور والعمارات، { وما كانوا يعْرِشُون } من البنيان المرتفع كصرح هامان، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان، فالأول من العرش والثاني من العَريش.
الإشارة: قد جرت عادة الله في خلقه أن يظهر الخواص من عباده، فَيُنكَرُوا أو يستضعفوا، حتى إذا طُهّروا من البقايا وتمكنوا من شهود الحق، مَنَّ الله عليهم بالعز والنصر والتمكين، فمنهم من يمكن من التصرف في الحس والمعنى، ويقره الوجود بأسره، ومنهم من يمكَّن من التصرف في الكون بهمته، ولكنه تحت أستار الخمول، لا يعرفه إلا من اصطفاه لحضرته، وهذا من شهداء الملكوت، ضنَّ به الحق تعالى فلم يظهره لخلقه. والله تعالى أعلم وأحكم.
ثم ذكر نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون، وخروجهم إلى الشام، فقال: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ }.