التفاسير

< >
عرض

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ
١٨
-الأنفال

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: فَلَمْ تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم، وقلّة عُدتكم وعدَدكم، وكثرة عدوكم وعُدتهم، { ولكن اللَّه قتلهمْ } بواسطة مباشرتكم، حيث أيدكم وسلطكم عليهم، وإمداد الملائكة لكم، وإلقاء الرعب في قلوب عدوكم.
قال البيضاوي: رُوي أنه لما أَطلَّتْ قريش من العقنقل ـ اسم جبل ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" هذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بخُيَلائِهَا وفَخْرِهَا، يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي" ، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَال له: خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فارْمِهِمْ بِهَا، فلمَّا التَقَى الجَمعَأن تناول كفّاً من الحَصْبَاءِ فَرَمَى بها في وُجُوهِهِم، وقال: "شَاهَتْ الوُجُوهُ" فَلَمْ يَبق مُشْرِكٌ إلا شُغِلَ بَعَيْنَيْهِ، فانْهَزَمُوا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلتُ وأسرتُ، فنزلت الآية، وإلغاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فلَمْ تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، { وما رميتَ } يا محمد رمياً توصلها إلى أعينهم. ولم تقدر عليه { إذْ رميتَ } أي: حين ألقيت صورة الرمي، { ولكنَّ الله رَمَى }، أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعاً، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. هـ. فالرمي، حقيقة، إنما وقع من الله تعالى، وإن ظهر حساً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما فعل ذلك ليقطع طرفاً من الكفار، ويحد شوكتهم، { وليُبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } أي: ليختبر المؤمنين منه اختباراً حسناً، ليظهر شكرهم على هذه النعمة، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة؛ بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات، { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم، { عليم } بنياتهم وأحوالهم. { ذلكم } أي: البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي، واقع لا محالة، أو الأمر ذلكم، { وأن الله موهن كيد الكافرين } أي: مضعف كيد الكافرين، ومبطل حيلهم، أي: المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم: فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم؛ إذ لا طاقة لكم عليها، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد، حتى حييت بمعرفته، ويقول الشيخ: وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية، لا تأثير لك في شيء من ذلك.
حُكي أن الحلاج، لما كان محبوساً للقتل، سأله الشبلي عن المحبة، فقال: الغيبة عما سوى المحبوب، ثم قال: يا شبلي، ألست تقرأ كتاب الله؟ فقال الشبلي: بلى، فقال: قد قال الله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }، يا شبلي؛ إذ رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. هـ. والمقصود بذلك: تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.
ولما أرادت قريش الخروج إلى غزوة بدر، تعلقوا بأستار الكعبة، وطلبوا الفتح، وقالوا: اللهم أنصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله: { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ }.