التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } إلى قوله: { ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }.
"سبحان" عند الخليل وسيبويه منصوب على المصدر، إلا أنه لا ينصرف لأنه معرفة في آخر[ه] زائدتان. وحكى سيبويه: أن من العرب من ينكره فيصرفه.
وقال أبو عبيدة: هو منصوب على النداء.
وقال بعضهم. هو موضوع موضع المصدر فنصب لوقوعه موقعه، فهو موضع تسبيح.
والتسبيح: يكون [بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى في يونس:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } [الصافات: 143] أي: من المصلين.
وفي لغة لبعض أهل [اليمن]، يستعملونه في معنى الاستثناء، ومنه قوله:
{ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [القلم: 28] أي: تستثنون إذا أقسمتم { { لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [القلم: 17] ولم يستثنوا. فإنما ذكر[هم] بتركهم الاستثناء.
ويستعمل في معنى النور. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
"لولا ذلك لأحرقت سبحات وجهه..." ، أي نور وجهه.
ومعنى "سبحان الله": براءة الله من السوء. كذلك فسره النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن معنى التسبيح.
وروي عنه أنه
"سئل عن معنى سبحان [الله]، فقال: تنزيه لله من كل سوء" . وسئل عنها علي [رضي الله عنه] فقال: هي كلمة رضيها الله لنفسه. وعنه أيضاً أنه قال: هي كلمة أحبها الله ورضيها لنفسه فأحب أن تقال.
ومعنى المسجد الحرام [أي]: المسجد الممنوع من الصيد فيه، لأن الحرم ممنع. والحرم كله مسجد.
عن أم هانئ أنها قالت: ما أسري برسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلا وهو [في بيتي].
وقيل: إنما أسري به من المسجد. عن قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة [وهو رجل من قومه، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:
"بينا [أنا] عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلاً يقول أحد الثلاثة: فأوتيت بطست من ذهب فيه ماء زمزم، قال: فشرح صدري فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم [ثم] أعيد مكانه ثم خشى إيماناً وحكمة، ثم أتيت بدابة بيضاء يقال لها البراق، فوق الحمار ودون البغل، يضع خطوه أقصى طرفه، فحملت عليه. ثم انطلقنا حتى / [أ]تيت السماء الدنيا" . ثم ذكر الحديث بطوله
قال ابن شهاب، أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن،
" أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به على البراق وهي دابة إبراهيم خليل الرحمن التي كان يزور عليها البيت الحرام يقع حافرها موقع طرفها. قال: فمرت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية فنفرت العير، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إيلياء فأتي بقدحين:
قدح خمر، وقدح لبن، فأخذ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قدح اللبن، فقال له جبريل [صلى الله عليه وسلم]: هديت إلى الفطرة لو أخذت قدح الخمر [لـ]ـغوت أمتك. [و] قال ابن شهاب: فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لقي هنالك إبراهيم وموسى وعيسى، فنعتهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. فقال: أما موسى فَضَرْب، رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة. وأما عيسى [فهو] فهو رجل أحمر كأنه خرج من ديماس وأشبه من رأيت به عروة بن مسعود الثقفي. وأما إبراهيم فإنه أشبه ولده به.
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث قريشاً أنه أُسريَ به، قال عبد الله: فارتد ناس كثير بعدما أسلموا، فأتى أبو بكر الصديق [رضي الله عنه] فقيل له: صاحبكم يزعم أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة. قال أبو بكر: [أ]و قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فاشهد[وا] إن كان كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ فقال إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: :لما كذبتني قريش قمت فمثل الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه"
.
وقال أبو العالية: "جاء جبريل [إلى النبي] صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل فقال جبريل لميكائيل إيتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسس من ماء زمزم فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غل، وملاه حلماً وإيماناً وعلماً ويقيناً وإسلاماً، وختم بين كتفيه بخاتم النبوءة، ثم أتاه بدابة فحمل عليه، كل خطوة [منها] منتهى بصره، فسار وسار معه جبريل. فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد [كما كان] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما أرضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل؟ [فقال] هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على إقبالهم رقاع وعلى إدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع / والزقوم، ورضف جهنم، وحجارتها، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله شيئاً وما الله بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ [قال]: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تكون عند الرجل [الطيب] فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت معه حتى تصبح، قال: ثم أتى على خشبة من الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا حرقته فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ }. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، قال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عليه آمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: من هؤلاء [يا جبريل؟ قال: هؤلاء] خطباء الفتنة. ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة باردة، وريح المسك وسمع صوتاً. فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة وريح المسك؟ وما هذا الصوت؟ فقال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ايتني ما وعدتني فقد كثر زخرفي، واستبرقي، وحريري، وسندسي، وعبقريي، ولؤلؤي [ومرجاني]، وفضتي، وذهبي، وأكوابي، وصحافي، وأباريقي، وفواكهي، وعسلي، ولبني، وخمري فأين ما وعدتني؟ فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين. قالت: قد رضيت. ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ وما هذا الصوت؟ فقال: هذا صوت جهنم، تقول: يا رب، ايتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي. [وقد] بعد قعري، واشتد حري، فأتني ما وعدتني، فقال لها: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار / لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت" . ثم أتى بحديث الإسراء بطوله، وفيه اختلاف بين الرواة. فمذهب من قدمنا ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم [أسرى] بجسمه وعليه أكثر الناس.
وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: كانت رؤيا من الله صادقة: وروي ذلك عن عائشة أيضاً [رضي الله عنها]. واستدل الحسن على صحة ذلك بقوله
{ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء: 60] فالوحي يأتي للأنبياء في [النوم] وفي اليقظة ودليل ذلك قول إبراهيم [صلى الله عليه وسلم]: { { إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي [أَذْبَحُكَ] } [الصافات: 102] ثم مضى لذلك ليفعل ما أمر به في النوم.
والاختيار عند أهل النظر: أن يكون أسرى الله [عز وجل] بجسمه وليست برؤيا في المنام. والدليل على صحة ذلك: أنها لو كانت رؤيا رآها في منامه لم يكن في ذلك دليل ولا حجة على نبوته، لأن كل إنسان يرى أنه ببلد بعيد وهو في بلد آخر. فقد يرى الإنسان أنه في الصين و [هو]. بقانة، وبينهما سيرة نحو السنتين وأكثر. وقد قال الله [تعالى]: { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } ولم يقل: بروح عبده، فلا يتعدى ما قاله الله [عز وجل] إلى غيره إلا بدليل قاطع.
وقوله: { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } يعني مسجد بيت المقدس.
وقوله: { بَارَكْنَا حَوْلَهُ }.
أي: جعلنا حوله البَركَة لسكانه في معايشهم وكثرة ثمارهم وطيبها. وقيل معناه: أن الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى كلهم كانوا ببيت المقدس فمعنى البركة فيه أنه طهر من الشرك وبوعد منه وخص بالأنبياء.
وقوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ }.
أي: أسري بمحمد [صلى الله عليه وسلم] لكي يرى من آيات الله [عز وجل] وعجائبه [سبحانه] وذلك ما رآه [في] طريقه مما ذكرنا بعضه. وروي: أن أهل مكة قالوا للنبي عليه السلام: إن لنا في طريق الشام إبلاً، فأخبرنا خبرها ومتى تقدم. فأخبرهم أنها تقدم عليهم في يوم سماه لهم مع شروق الشمس، وأنه فقد منها جمل أورق فخرجوا في ذلك اليوم فقال أحدهم: هذه الشمس قد أشرقت وقال: هذه الإبل قد [أقبلت].
وقوله: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } معناه السميع لما يقول هؤلاء المشركون من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. البصير بما يعملون. لا يخفى عليه شيء من ذلك. وكسرت "إن" في قوله: "إنه" لأن معنى الكلام: قل يا محمد سبحان الذي أسرى بعبده، وقل [يا محمد] إنه هو.
ويروى:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعلم قريشاً بالإسراء كذبوه، وقالوا له: نسألك عن عير لنا، هل رأيتها في الطريق؟ فقال: نعم. فقالوا: أين؟ قال: مررت على عير بني فلان بالرواح، قد أضلوا ناقة لهم، وهم في طلبها. فمررت على [ر]حالهم وليس بها منهم أحد. فوجدت في إناء من آنيتهم ماء فشربته / فسلوهم إذا رجعوا هل وجدوا الماء [في] الإناء أم لا؟ فقالوا: هذه آية. قال: ومررت على عير بني فلان فنفرت مني الإبل فانكسر منها جمل أحمر عليه أبناء فلان. فقالوا: هذه آية أخرى. [قال ومررت على عير بني فلان] بالتنعيم حين انشق الفجر. قالوا: فإن كنت صادقاً، فإنها تقدم الآن. قال أجل. قالوا: فحدثنا بعدتها، وأحمالها، ومن فيها. قال: كنت مشغولاً عنها. فمثل ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال هي منحدرة من الثنية يقدمها جمل أورق عدتها كذا وكذا، وأحمالها كذا وكذا، فيها فلان وفلان، يسمي الرهط الذين فيها، وخرج رهط من قريش يسعون إلى الثنية فإذا هم بها حين انحدرت على ما [وصفها] لهم [النبي] صلى الله عليه وسلم" .
وأخبار الإسراء كثيرة مختلفة الألفاظ، منها المطول، ومنها المختصر، والمعاني متقاربة، فاقتصرنا على ما ذكرنا اختصاراً.