التفاسير

< >
عرض

فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
٢٤
وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
٢٥
فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
-مريم

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي } إلى قوله: { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً }.
من قرأ "مَنْ تَحْتَهَا" بالفتح "أراد فناداها عيسى". كذلك تأوله أُبي بن كعب والبراء بن عازب والنخعي، وبذلك قرؤوا. ومن قرأ بكسر الميم والتاء، أراد فناداها جبريل. كذلك قال ابن عباس والضحاك.
وقال مجاهد: هو عيسى عليه السلام.
قال الضحاك: كان جبريل صلى الله عليه وسلم أسفل منها، فناداها من ذلك الموضع "ألاّ تحزني".
وقال أبو عبيد: من كسر الميم والتاء، يجوز في قراءته أن يكون لجبريل ولعيسى عليهما السلام. ومن فتحهما، هو لعيسى خاصة، والاختيار عند أهل النظر في الكسر أن يكون لعيسى مثل الفتح، أي: فناداها عيسى من تحتها.
وقرئ بذلك لتقدم ذكر عيسى ولم يتقدم ذكر جبريل إلا فيما بعد، عند قوله: { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } فالحمل على الأقرب أولى من الأبعد.
قال ابن زيد: قال لها عيسى: لا تحزني، قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج، فأقول من زوج، ولا مملوكة فأقول من سيدي، أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام.
قال البراء: "السري" الجدول، وهو النهر الصغير. وبذا قال ابن عباس وغيره، وهو بالنبطية.
وقال مجاهد: "السري" النهر بالسريانية.
وقال قتادة: السري: عيسى نفسه. وكذا قال ابن زيد. أي: شخصاً سرياً.
وقال الحسن: كان والله سرياً من الرجال، يعني عيسى. فقيل له: يا أبا سعيد، إنما هو الجدول النهر. فقال: يرحمك الله، إنما تلتمس مجالستكم لهذا.
وقوله: { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ }.
يدل على أنه النهر لقوله تعالى بعد ذلك { فَكُلِي وَٱشْرَبِي } فكلي من هذا الرطب واشربي من هذا الماء وقريّ عيناً بولدك.
وقوله { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً }.
من قرأ بالتاء، رده على النخلة ومن قرأ بالياء، رده على الجذع، ومن شدد السين أدغم فيها إحدى التاءين، ومن خفّف، حذف إحدى التاءين كتظاهرون و "رطبا" منصوب على التمييز. وقال المبرد هو مفعول بهزي أي: وهزي إليك رطباً بجذع النخلة.
وقرأه مسروق بن الأجدع "تُسقط" بتاء مضمومة. وحذف الألف فيكون على هذا "رطباً" مفعولاً به. وكذلك هو على قراءة عاصم "تساقط" على تفاعل. قيل: نصبه على التمييز.
وقيل: هو مفعول بـ "هزي".
و { جَنِيّاً } نعت للرطب وهو فعيل بمعنى مفعول، أي: رطباً مجنياً. والجني: الطري.
"والرطب" يؤنث على معنى الجماعة، ويذكر على معنى الجنس.
وقال أبو وائل: لو علم الله شيئاً أطيب من الرطب لأطعمه مريم".
وقوله: { وَقَرِّي عَيْناً } هو من قررت بالمكان عند الشيباني، أي: قري عيناً. وقيل: هو من قررت به عيناه مشتق من القر أي: بردت عيناً، فلم تسخ بخروج الدمع. ولغة قريش قررت به عيناً أقر وقررت بالمكان أقر.
وأهل نجد يقولون: قررت به عيناً أقر.
ثم قال تعالى: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً }.
أي: "قال لها عيسى صلى الله عليه وسلم بعد قوله [لها] أنا أكفيك الكلام، فإما ترين... الآية". والظاهر أن يكون هذا الأمر من الله جلّ ذكره لها، والله أعلم بذلك.
فالمعنى: إن رأيت من بني آدم أحداً يسألك. فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً. أي: أوجبت على نفسي للرحمن صوماً. أي: صمتاً: قاله ابن عباس والضحاك.
وقال قتادة صامت من الطعام والشراب والكلام.
وقال ابن زيد: كان في بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم / من الطعام إلا من ذكر الله عز وجل فقال لها ذلك.
وأصل الصوم. الإمساك، وإنما أمرها بالصوم عن الكلام لأنه خاف عليها ألا تكون لها حجة فيما جاءت به، فأمرها بالكف عن الكلام ليكفيها ولدها الحجة عنها.
ولا يحل لأحد أن ينذر ترك الكلام يوماً. وإنما جعل الله ذلك آية لمريم خاصة.
وقد قيل: بل كانت ذلك اليوم صائمة عن الطعام والشراب، فأذن لها ألا تكلم الناس ذلك اليوم.
روى يزيد الرقاشي أن أنس بن مالك قال: إذ ولد عيسى أصبح كل صنم يعبد من دون الله خاراً على وجهه، وأقبلت الشياطين إلى إبليس تضرب وجوهها لما حدث.
ومعنى "فَقُولي" أي: أشيري إليهم بذلك، لأنها لو كلمتهم بذلك لتناقض ما عقدت على نفسها من الصمت. وهذا يدل على أن القول قد يكون غير كلام، وهو كثير في كلام العرب.