التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
١٤٧
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٩
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٠
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
١٥١
فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
١٥٢
يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٣
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
١٥٤
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٥
ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ * ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } إلى قوله: { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }.
أي: هذا الحق من ربك.
{ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } أي: لا تكونن من الشاكين أن القبلة التي وجهت إليها هي الحق وهي قبلة إبراهيم والأنبياء غيره صلوات الله عليهم.
وهذا خطاب للنبي [عليه السلام] والمراد به أمته.
ثم قال تعالى: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا }.
"هو" يرجع إلى "كُلٍّ". والهاء في "مُوَلِّيها" ترجع إلى القبلة. وقيل: "هُوَ" يرجع إلى الله جل ذكره.
فأما من قرأ "هو مُوَلاَّها"، فهو يرجع إلى "كُلٍّ" لا غير.
قال مجاهد: "معناه: ولكل صاحب ملة قبلة". يعني لليهود قبلة وللنصارى قبلة.
قال ابن عباس: "يعني بذلك أهل الأديان؛ لكل أهل دين قبلة يرضونها. ووجهة الله عز وجل حيث توجه المؤمنون".
وقال الضحاك: "معناه ولكل صاحب ملة قبلة، وصاحب القبلة يولِّيها وجهه".
وقال السدي: "المعنى ولكل قوم قبلة قد ولّوها".
والمعنى عند أهل العربية، هو موليها نفسه / أو وجهه.
فأما من قرأ: "مُوَلاَّهَا" فالضمير على هذه القراءة لواحد، أي: ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها، أي: مصروف إليها.
وقال الأخفش: "المعنى: موليها الله إياه على ما يزعمون" / يريد على قراءة موليها.
وقال علي بن سليمان: "المعنى هو متوليها، والوجهة والجهة والوجه واحد".
وعن قتادة في قوله: { هُوَ مُوَلِّيهَا }، قال: "هي صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة".
فيكون التقدير على هذا: ولكل ناحية وَجَّهَكَ إليها ربُّك يا محمد قبلةُ الله مولِّيها عباده". وهو قول الأخفش الذي تقدم.
ومعنى "مولِّيها" مول وجهه إليها ومستقبلها.
وقال الطبري: "التولية في الآية للكل، ووُجدت للفظ "كل"، قال: "فمعنى الكلام: ولكل أهل ملة وجهة، الكل موليها وجوههم. قال: وأما قراءة ابن عامر فمعناه: هو موجَّه نحوها، ويكون الكل حينئذ غير مسمى فاعله، ولو سمي فاعله لكان الكلام: ولكل ذي ملة وجهة، الله موليها إياه بمعنى موجهه إليها.
ورويت قراءة شاذة بإضافة "كل" إلى "وجهة"، وهي قراءة / لا تجوز لأنه لا فائدة في الكلام إذا لم يتم الخبر".
ولو ثَنيتَ على قراءة الجماعة لقلت: "هُمَا مُوَلِّياهَا"، وفي الجمع [هُمْ مَوَلُّوهَا] وعلى قراءة ابن عباس / في التثنية "هُمَا مُوَلَّياهَا". وفي الجمع [هُمْ مُوَلَّوْهَا]. فإن جئت بالمفعول الثاني في قراءة الجماعة، قلت في التثنية: "هُمَا [مُوَلِّياهَا هُمَا] وفي الجمع: "هُمْ مُوَلُّوهَا هُمْ".
ثم قال تعالى: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ }.
أي: بادروا إلى عمل الصالحات واستقبال ما أمركم الله عز وجل باستقباله وهو المسجد الحرام.
ثم قال: { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً }.
أي: في أي مكان تكونون بعد موتكم يأت بكم الله جميعاً يوم القيامة.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. أي: على جمعكم بعد مماتكم وغير ذلك قدير.
ثم قال تعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } الآية.
وقد تقدم شرحه ووقع التكرير للإفهام، ولئلا يصل ذلك إلى بعض دون بعض فكرر الله التأكيد ليصل إلى الجميع.
ثم قال: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }.
الناس هنا: مشركو العرب. والمعنى: عرفناكم أن لكل وجهة موليها لئلا يكون لمشركي العرب حجة أي: خصومة / ودعوى باطل [إلا لمشركي] قريش فإن [لهم عليكم] دعوى باطلة وخصومة بغير حق لقولهم لكم: رجع [محمد إلى] قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا. هذا معنى قول مجاهد.
وقال قتادة: "هم مشركوا العرب، قالوا لمشركي قريش حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم".
قال الله تعالى: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي }.
وعن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب النبي [عليه السلام] أنه لما صرفت القبلة نحو الكعبة قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلاً، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله فيهم: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي }.
وهو قول عطاء والسدي وغيرهما. فهو على هذا التاويل استثناء صحيح، وهو مذهب الطبري، قال: "نفى الله جل ذكره أن يكون لأحد من الناس حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقباله الكعبة إلا مشركي قريش فإن لهم قِبَلَكُم خصومةً باطلة بأن يقولوا: إنما توجهتم إلى قبلتنا لأنا كنا أهدى منكم سبيلاً وأنكم كنتم على ضلالة في استقبالكم بيت المقدس".
وقال بعض النحويين: "هو استثناء ليس من الأول، / و "إلا" بمعنى "لكن".
قال أبو عبيدة: / ""إلا" بمعنى الواو".
وهو قول بعيد من الصواب لأنه يفسد المعاني ويغير ما بني عليه الكلام. و "إلا" إذا كانت بمعنى "لكن"، فإنما هي إيجاب لشيء بعدما تؤكده.
وقوله: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي }.
أي: لا تخشوا هؤلاء الذين سفهوا عليكم بالحجج الباطلة، واخشوا عقابي إن خالفتم أمري. وهذا تحضيض من الله تعالى للمؤمنين على لزوم الصلاة إلى الكعبة وترك التوجه إلى غيرها.
وقال السدي: "معناه: فلا تخشوا أن أردكم إلى دينهم".
ثم قال: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }.
قال الأخفش: "هو معطوف على { لِئَلاَّ يَكُونَ } أي: لئلا يكون، ولأتم نعمتي عليكم. فالمعنى: / ولّوا وجوهكم حيث كنتم من الأرض إلى نحو المسجد الحرام كي لا يكون لأحد من الناس عليكم حجة سوى مشركي قريش، فإن لهم حجة باطلة، وكي أتم نعمتي عليكم بإتمام شرائح الملة الحنيفية.
وقال ابن جبير: "{ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }: "أي: ولأدخلكم الجنة". قال: "ولن تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة".
وقال الزجاج: "اللام متعلقة بمحذوف والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتكم، وأنه لا حجة لأحد عليكم إلا الذين ظلموا فإنهم [سيحتجون عليكم] بالباطل".
وقيل: التقدير: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }، { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }. ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير. وهو قول الأخفش المتقدم الذكر.
ثم قال تعالى: { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ }.
تقديره: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا إليكم رسولاً منكم تالياً عليكم الكتاب ومطهراً لكم من الذنوب ومعلماً لكم ما لم تكونوا تعلمون.
فكل ما بعد "رسول" نعوت له مكررة.
وقال الزجاج: "الكاف متعلقة بما بعدها، أي: فاذكروني كما أرسلت فيكم رسولاً منكم".
وهذا قول مردود لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه؛ تقول: "كما أحسنتُ إليك فأكرمني". فتكون الكاف من "كما" متعلقة بـ "أكرمني" إذ لا جواب له. فإن قلت: "كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك"، لم تتعلق الكاف من "كما" بـ "أكرمني" بأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر أو بمضمر. فكذلك قوله: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } / هو أمر له جواب، فلا [تتعلق "كما" به ولا] يحوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، نحو قولك: "إذا أتاك فلان فأته ترضه"، فتكون "كما" و "أذكركم" جوابين [للأمر. والأول أفصح] وأشهر.
وقيل: هي متعلقة بقوله: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي: "ولأتم نعمتي عليكم إتماماً كما أرسلنا".
وقيل: الكاف في موضع / نصب على الحال، أي: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال.
وقيل: المعنى: ولأتم نعمتي عليكم بإتمام شرائع دين الحنيفية ملة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم تالياً عليكم آياتي، ومطهراً لكم ومعلماً لكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون. وكل ذلك بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم [في قوله]:
{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128] وقوله: { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ / وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ } [البقرة: 129].
فدل هذا المعنى على ان الكاف متعلقة بقوله: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } فتلخيص المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم.
ومعنى "يزكيكم" / يطهركم من دنس الذنوب.
{ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ } أي: القرآن، والحكمة والسنن والفقه في الدين. { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }.
أي أخبار الأنبياء والأمم قبلكم، وما هو كائن من الأمور.
ومعنى { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ }.
قال ابن عباس: "إذا ذكر الله العبدُ وهو على طاعته ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو على معصيته ذكره بلعنته".
وقال عكرمة: "يقول الرب: يا ابن آدم اذكرني بعد صلاة الصبح ساعة وبعد صلاة العصر ساعة، وأنا أكفيك ما بينهما".
وقال ابن جبير: "اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة".
وقال الربيع في الآية: "إن الله ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره".
وكان بعضهم يتأوله من الذكر والثناء والمدح.
وقيل: المعنى: اذكروني واذكروا نعمتي عليكم شكراً لها، أذكركم برحمتي والزيادة من النعمة.
وقال السدي: "ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله جل وعز، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب". والذكر فيما روي عن عمر رضي الله عنه ذكران. أحدهما أفضل من الآخر وهما: / ذكر الله عند أوامره ونواهيه، وذكر الله بلسانه بالثناء عليه. فالأول أفضل، وكلاهما فيه فضل وأجر وثواب، إلا أن ذِكْر الله عند أمره ونهيه - فيفعل ما أمر به وينتهي عما نهى عنه - أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه. والفضل كله والشرف والأجر والثواب في اجتماعهما من الإنسان. وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره فيأتمر، وعند نهيه فينتهي، ولا ينساه من ذكره بلسانه.
وكذلك الصبر صبران. وهما: الصبر على الطاعة وعن المعصية، / والصبر على المصيبة. والأول أفضل.
وقوله: { وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }.
أي اشكروه على نعمة الإسلام والهدى ولا تجحدوا إحسانه إليكم ونعمه عندكم.
والشكر معناه الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة.
ومعنى الكفر التغطية للشي.
ثم قال: { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ }.
هذه الآية حض من الله تعالى للمؤمنين على طاعته، واحتمال المكروه في الله عز وجل. فالمعنى: استعينوا على طاعة الله بالصبر والتسليم لأمره في جميع ما يأمركم به، واستعينوا على ذلك أيضاً بالصلاة لأن بها تتقربون إلى الله سبحانه، فيجيب دعاءكم ويقضي حوائجكم.
قال قتادة: "احتجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في انصرافه إلى الكعبة: [وقالوا: سيرجع محمد] إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا بالصبر والصلاة". وقيل: الصبر هنا الصوم، لأنه يقطع عن اللذات.
وقيل: الصبر هنا الصبر عن المعاصي.
{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }: أي: ناصرهم وراض بفعلهم يظهر دينه على سائر الأديان لأن من كان الله معه فهو الغالب.
ثم قال / تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }.
هذا يدل على أنه لا يقال للشهيد ميت، إنما يقال: شهيد وقتيل. فالمعنى: هم أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. قاله مجاهد.
قال قتادة: "كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارَف في طير [خضر تأكل من ثمار] الجنة، وأن مساكنهم السدرة، وأن للمجاهد في سبيل الله عز وجل ثلاث خصلات: من قتل في سبيل الله عز وجل منهم صار حياً مرزوقاً، ومن غلب آتاه الله أجراً عظيماً، / ومن مات رزقه الله رزقاً حسناً".
قال الربيع: "هم أحياء في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا. منها يأكلون، من حيث شاءوا".
وقال عكرمة: "أرواح الشهداء في طير بيض في الجنة".
وروى ابن عباس عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه قال:
"الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ" .
ويُرْوى أنهم بباب الجنة في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً. [فنهى الله المسلمين أن يسموهم] أمواتاً وأمرهم أن يسموهم شهداء.
وعن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه قال / في شهداء أحد:
"هَؤُلاءِ الشُّهَدَاءُ، وَأَنَا عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ في طَيْرٍ خضرٍ تَرْتَعُ فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ" .
وقيل: المعنى: لا تقولوا: "هم أموات في دينهم، بل هم أحياء في دينهم". والقول الأول عليه أهل العلم.
ثم قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ }.
أي: لنختبرنكم ولنمتحننكم بشدائد الأمور فيظهر من هو في الصبر والاحتساب على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم باقٍ، ممن ينقلب على عقبيه كما ابْتَلَيْتُكُمْ بتحويل القبلة. وقد عدهم الله بذلك الامتحان في آية أخرى فقال:
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ / خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [البقرة: 214] الآية إلى { قَرِيبٌ } [البقرة: 214]. قال ابن عباس: "أخبر الله عز وجل المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشّرهم، فقال: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ }. وأخبر في الآية الأخرى أنه هكذا فعل بأوليائه قبلهم لتطيب أنفسهم فقال: { مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ } [البقرة: 214].
وقوله: { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ }. يعني خوف العدو.
{ وَٱلْجُوعِ }: يعني القحط.
ثم قال: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ }: أي: الصابرين على الامتحان، ثم بيّنهم فقال:
{ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }.
أي نحن وأموالنا له، ونحن إليه راجعون.
وقيل: معناه: ونحن مقرون بأن نبعث ونعطى الثواب على تصديقنا والصبر على ما ابتلينا به.
ثم قال: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }.
أي: مغفرة من ربهم.
وقيل: ترحم من ربهم ورحمة. { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }.
قال الليث في قوله: { إِنَّا للَّهِ } الآية "معناها: نحن والذي أصبنا به لله ونحن وإياه إلى الله راجعون".
/ قال ابن جبير: "لم يعط هذه الآية أحد من الأمم قبلنا ولا نبي قبل نبينا. ولو علمها يعقوب عليه السلام لم يقل:
{ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84].
وقال عكرمة:
"انطفأ مصباح / النبي [عليه السلام] ليلة فقال: { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }. فَقِيلَ: يَا نَبِيَّ اللهِ: أَمُصِيبَةٌ هَذِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُلُّ شَيْءٍ آذَى المُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ، / وَلَهُ فِيهِ أَجْرُ المُصِيبَةِ" .
وروي أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: "مَا مِنْ أَحَدٍ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَاسْتَرْجَعَ إِلاَّ اسْتَوْجَبَ مِنَ الله ثَلاثَ خِصَالٍ؛ كُلُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" .
قَال أبو عبيد: يعني قوله: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }.