التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
-البقرة

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى }. إلى قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
معناه: فرض عليكم القصاص في قتلاكم.
فـ "كتب" بمعنى "فرض"، ومنه قوله:
{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } [النساء: 77] أي: فرضته.
وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
ويكون "كَتَبَ" بمعنى "قَضَى". من قوله:
{ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } [التوبة: 51]. / أي: قضى علينا.
ويكون "كتب" بمعنى جعل كقوله:
{ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 22].
وكقوله:
{ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ } [آل عمران: 53]. و { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأعراف: 156].
ويكون "كَتَبَ" بمعنى "أَمَرَ" كقوله:
{ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21].
والمعنى: فرض عليكم أن تقتصوا ممن قتل أولياءكم إن شئتم ذلك، وليس القصاص بفرض عليهم، إنما هو مباح لهم، وإن شاء الولي عفا وإن شاء أخذ الدية.
قال ابن عباس: "كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، ثم بين تعالى كيف القصاص، فقال: { ٱلْحُرُّ / بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ }، أي: يقتل هذا بهذا.
ولا يقتل حر في عبد عند مالك والشافعي.
وهذه الآية عند ابن عباس / منسوخة بقوله:
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المادة: 45]، لأن آية البقرة توجب ألا تقتل امرأة قتلت رجلاً، ولا رجل قتل امرأة، ولا عبد قتل حراً، وآية المائدة توجب قتل النفس بالنفس، فيلزم منها يقتل الحر بالعبد. لكن فيها تخصيص.
قال ابن عباس: "كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فأنزل الله { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } فجعل الله الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد، - رجالَهم ونساءَهم - في النفس وفيما دون النفس".
وتأول أبو عبيد على ابن عباس أن مذهبه: أن آية المائدة ليست بناسخة لآية البقرة، وكأن آية المائدة مفسرة لآية البقرة، فبينت آية المائدة أن أنفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكوراً كانوا أو إناثاً، وأن أنفس المماليك متساوية أيضاً فيما بينهم وأنه لا قصاص للمماليك على الأحرار، فالآيتان محكمتان عنده إحداهما مبينة للأخرى مفسرة لها.
وقال الشعبي: "نزلت آية البقرة في قوم اقتتلوا فقتل بينهم خلق كثير، فقالت الغالبة العزيزة من القبيلتين المتقاتلتين: "لا نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم ولا بالأنثى منا إلا الذكر منهم "فأنزل الله: { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ }. وقال السدي: "نزلت في فريقين وقعت بينهما قتلى، فأمر النبي [عليه السلام] أن يقاص بينهما، ديات النساء بديات النساء، والرجال بالرجال".
فالآية على هذا محكمة مخصوصة.
/ وقال الحسن: "الآية على التراجع: إذا قتل رجل امرأة، كان أولياء المرأة بالخيار، إن شاؤا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا نصف الدية. وإذا قتلت امرأة رجلاً؛ فإن شاء أولياء الرجل قتلوا المرأة وأخذوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا الدية كاملة. وإذا قتل حر عبداً؛ فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية الدية بعد قيمة العبد.
وإذا قتل عبد رجلاً حراً، فإن شاء أولياء الرجل قتلوا العبد، ويأخذون بقية الدية".
وقال مالك: "أحسن ما سمعت في هذه الآية يراد بها الجنس: الذكر والأنثى فيه سواء"، يعني الأحرار وأعاد ذكر الأنثى إنكاراً لما كان في الجاهلية.
ولا يقتل الحر بالعبد عنده، ولكن عليه قيمته.
ولا يقتل المسلم بالذمي، وعليه الدية في العمد والخطأ. وبذلك قال عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة وابن دينار والشافعي. ودليل ذلك إجماعهم أنه لا يقتص للعبد من الحر / فيما دون النفس، فكانت النفس كذلك.
/ فأما قوله: { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } فإنما هو إخبار عما فَرَضهُ الله على بني إسرائيل. وقد أجمع على القصاص بين الأحرار، فدخل في ذلك قتل الأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى من الأحرار.
وقد قال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي: "يقتل الحر بالعبد بدليل قوله:
{ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45]، ولقول النبي [عليه السلام]: "المُؤْمِنونُ تَتَكافَأُ دِماءُهُمْ وَلِيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْناهُمْ" ، والعبد المؤمن كالحر، وقالوا: لما لم يكن قوله: (الأُنْثَى بالأُنْثَى) بمانع من قتل الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى، كذلك لا يمنع قوله: (العَبْدُ بالعَبْدِ) مِن قتل الحر بالعبد. وهذا باب واسع يستقصى إن شاء الله في كتاب الأحكام.
ثم قال تعالى: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ }.
أي فمن ترك له ولي المقتول من الدية شيئاً.
{ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } أي فليتبع العافي القاتل بالمعروف.
وقوله: { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }.
أي: وليؤد القاتل إلى الولي ما قَبِله من الدية بإحسان. وهذا قول مروي عن ابن عباس.
[فَالهاءُ في "لَهُ" تعود على هذا القول] للقاتل.
والهاء في "أخيه" للقاتل أيضاً.
والهاء في "إِلَيْهِ" لولي المقتول العافي.
و "مَنْ" اسم القاتل، و "الأخ" ولي الدم.
/ قال ابن عباس: "كان القصاص في بني إسرائيل، ولم تكن الدية، فأباح الله لهذه الأمة أخذ الدية تخفيفاً".
وقيل: المعنى: "فمن قبل منه ولي المقتول في العمد الدية فلْيَتْبعْ الولي أخذَ الدية بمعروف، وليؤد القاتل إلى الولي الدية بإحسان إذا قبلها منه في العمد، ولم يُطالبه بالقصاص".
وهو أيضاً مروي عن ابن عباس، وعن جابر بن زيد، وهو أبين في نص الآية، والهاءات على حالها.
قال مجاهد: "هو أن يعفو الولي عن الدم ويأخذ الدية". وهو القول الذي قبله.
وقال الحسن: "على هذا الطالب أن يطلب بمعروف، وعلى المطلوب أن يؤدي بإحسان". وهو قول الشعبي وقتادة وعطاء وغيرهم، وقالوا كلهم: "العفو أن يأخذ الدية في العمد".
/ وقيل: المعنى: فمن عفي له من الواجب له على أخيه من قصاص وَليِّه شيء، فاتباع من الولي بمعروف وأداء من القاتل إلى الولي بإحسان. وهو قول مالك.
فالهاء في "لَهُ" على هذا القول تعود على ولي المقتول، والهاء في "أَخيهِ" للولي. و "مَن" اسم ولي الدم، و "الأخ" اسم القاتل.
وفي هذه الآية نظر يطول تقصيه. وجملة الاختلاف فيها أن المعفو له عند مالك وغيره ولي الدم، والعافي القاتل، وعفى عنده بمعنى يسر، والمعفو له [عند غير مالك القاتل، والعافي ولي] الدم. وعفا بمعنى ترك.
هذا اختصار معنى الاختلاف في الآية فافهمه.
و "الأخ" عند مالك القاتل، وهو عند غيره ولي الدم.
و "مَنْ" على قول مالك اسم ولي الدم. وعند غيره اسم القاتل.
قال أبو محمد: انظر كيف سمّى القاتل عمداً أخا الولي، ولم يُخرجه بالقتل عن أخوة الإسلام.
ثم قال تعالى: { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ }.
أي: ذلك الذي حكمنا به في هذه الآية من إباحتي الدية في العمد ولم أبح ذلك لغيركم من الأمم تخفيفٌ من ربكم عليكم، خصصتُكم به دون غيركم من الأمم، ورحمة من ربكم لكم.
وذكر ابن بكير أن العافي هو القاتل، وأن أولياء المقتول مخيرون في قبول الدية أو القتل. قال: "ألا تراه قال: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ }.
وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير دية.
ثم قال تعالى: { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
أي: مَن قتل بعد أخذ الدِّية فله / عذاب مؤلم في الآخرة، وحكمه أن يقتل ولا تقبل منه الدية.
وقيل: العذاب الأليم هنا القتل.
/ وقيل: هو شيء إلى السلطان يعاقبه بما شاء.
وقال الحسن: "تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يقتل".
وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال:
"نُقْسِمُ أَلاّ يُعْفَى عَنْ رَجُلٍ عَفَا عَنِ الدَّمِ، وأَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَدَا فَقَتَلَ" .
وقيل: أمره إلى الإمام يفعل به ما رأى.
ثم قال: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
أي إذا عَلِم من يريد أن يقتل أنه يقاصَص فيُقتل، أَمْسَك عن القتل فصارت معرفته بالقصاص فيها حياته، وحياة من أراد قتله.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. أي: تتقون القتل فلا تتعدون إليه لعلمكم بالقصاص.