التفاسير

< >
عرض

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٥٦
لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٥٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٨
-النور

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ }، إلى قوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
أي وعد الله المؤمنين منكم أيها الناس، وعملوا الأعمال الصالحات { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } قيل: أرض المشركين بعد النبي. فأخبر الله نبيه ووعده أنه سيمكن من آمن به من ملك أرض العدو، وأنه سيستخلفهم في تلك آمنين، فكان ما وعده به، وهذا من أدل ما يكون على صحة نبوة محمد عليه السلام لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فلا يكون ذلك إِلا عن وحي من الله إليه بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا الإخبار من متخرص يصيب ويخطئ، ويصيب بعضاً ويخطئ في بعض لأنه قد كان كل ما وعدهم به، لم يمتنع منه شيء، والمتخرص يقع خبره كذباً في أكثر أقواله، وربما وافق بعض ما أخبر به، وأخطأ في بعض، ولا يصيب المتخرص في كل ما وعد به، فلما كان كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتنع منه شيء علمنا أنه بوحى، والوحي لا يكون إلا للنبي والرسول الصادق في أخباره، فكان في ذلك دلالة على نبوة محمد عليه السلام. لأن الله تعالى ذكره قد أنجز له وعده. وفيها دلالة على خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعلى أمانتهم، لأنه لم يستخلف بعد رسول الله أحد ممن خوطب بهذه الآية غيرهم. لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"الخلافة بعدي ثلاثون سنة" . وهذا موافق للآية
ومعنى: { كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }، عني به بنو إسرائيل إذ أهلك الله الجبابرة بالشام وجعلهم ملوكها وسكانها، فدل ذلك أن الله هو الذي استخلفهم في الأرض، وبأمره صاروا خلفاء وأئمة، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئاً.
ثم قال تعالى: { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ }، أي: ليوطنن لهم دينهم وهو الإسلام الذي ارتضاه لهم وأمرهم به، وإنما جاء { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } في جواب { وَعَدَ } لأن الوعد قول فصار بمنزلة: قال لهم: ليستخلفنهم.
ثم قال: { يَعْبُدُونَنِي }، أي: يخضعون لي بالطاعة، لا يشركون في عبادتهم في الأوثان والأصنام، و "يعبدون": حال أي وعدهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون مستأنفاً على الثناء عليهم. ويروى أن بعض أصحاب النبي عليه السلام شكى إليه ما هم فيه من العدو، وتضييقه عليهم، وشدة الخوف، وما يلقون من الأذى / فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم. فأنجزه الله لهم، وملكهم ما وعدهم وأظهرهم على عدوهم.
قال أبو العالية: مكث النبي عليه السلام عشر سنين خائفاً، يدعو إلى الله سراً وجهراً ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها واصحابه خائفين يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع هنا السلاح.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة معناها: لا تَغْبُرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبياً ليس بيده حديدة، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ }، أي: من كفر بالنعمة لا بالله قاله: أبو العالية.
ثم قال تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ }، أي: بحدودها { وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ }، يعني التي فرض الله { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ }، يعني فيما أمر به ونهى عنه { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }، أي: لعل ربكم يرحمكم، ولعل من الله خبر واجب يفعله بفضله.
ثم قال تعالى: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ }، من قرأه بالياء فالمفعول الأول لحسب محذوف على قول الفراء. والتقدير لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين.
وقال علي بن سليمان: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، في موضع نصب.
والتقدير لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين. ويجوز أن يكون المعنى: لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين. فأما من قرأ بالتاء فهو الأمر الظاهر، والنبي عليه السلام هو المخاطب، وهو الفاعل، و { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، في موضع نصب. و { مُعْجِزِينَ }، مفعول ثان. ومعنى الآية لا تحسبن يا محمد الذين كفروا معجزين في الأرض إذا أراد الله هلاكهم، وتم الكلام على الأرض. ثم ابتدأ بخبر آخر عن عاقبة أمرهم، فقال: { وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ }.
قيل: هو معطوف على محذوف تقديره: بل هم تحت القدرة ومأواهم النار بعد هلاكهم. { وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي: بئس الذي يصيرون إليه.
ثم قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ }.
قال ابن عمر: هي محكمة. ودل على ذلك قوله تعالى:
{ { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النور: 59]، يعني البالغين، أي يستأذن هؤلاء الأطفال إذا بلغوا على كل حال، كما استأذن البالغون في كل وقت، يعني من الرجال خاصة.
وقيل: عني به من مَلَكْتَهُ من الرجال والنساء ألا يدخل عليك في هذه الثلاثة الأوقات إلا بإذن..
وقوله: { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ }، يعني من لم يحتلم من الأحرار.
ثم قال: { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ }، أي: في ثلاث مرات، يعني: بالمرات ثلاث أوقات. ثم بين الثلاث أوقات متى هن فقال: { مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ }، إلى قوله: { صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ }، ولو حُمِلَ الكلام على ظاهره لوجب ألا يدخل إلا بعد استئذان ثلاث مرات، وليس الأمر كذلك إنما هو إذن واحد.
قال ابن عباس: إن الله رفيق حليم رحيم بالمؤمنين يحب السترة عليهم، وكان القوم ليس لهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم والولد واليتيم على الرجل، وهو مع أهله في حال جماع، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاث، ثم جاء الله باليسر وبسط في الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وعنه أنه قال: الآية محكمة، والعمل بها لازم، ولكن الناس لا يعملون بها.
وقيل: إنما أمروا بالاستئذان لأنها أوقات يُتجرد فيها من الثياب، وتنكشف العورات، ودلت الآية على أن البالغين من ذوي المحارم عليهم الاستئذان في هذه الأوقات، وفي غيرها، وهؤلاء المذكورون في الآية إنما يستأذنون في هذه الأوقات خاصة.
وقال ابن المسيب: هي منسوخة: لا يُعمل بها اليوم. يعني أن الأبواب قد صنعت، والستور قد منعت من دخول هؤلاء وغيرهم على الإنسان، ودل على ذلك ما قال ابن عباس.
قال ابن عباس: جاء الله باليسر، وبسط الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستيذان الذي أمروا به. فكأنها على هذا القول ندب.
ثم قال: { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ }، من نصب ثلاث رده على ثلاث مرات.
وقيل: هو ظرف / والتقدير أوقات ثلاث عورات، والرفع على الابتداء وما بعده الخبر، والعورات الساعات التي تكون فيها العورة، والخلوة سميت عورة لكون ظهور العورة فيها، كما قالوا: ليلك نائم: لكون النوم فيه.
وقيل: التقدير: ثلاث أوقات ظهور عورات.
ثم قال: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ }، أي: ليس عليكم معشر أهل البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار إثم في الدخول عليكم بغير استئذان بعد الأوقات. وهذا يدل على أن على الموالي من الاستئذان في الدخول على العبيد في هذه الأوقات، مثل ما على العبيد. لقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ }، أي: بعد هذه الأوقات في الدخول حرج. ويدل عليه أيضاً قوله: { طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }، أي: يطوفون عليهم، كما يطوفون عليكم في هذه الأوقات، فعليكم من الاستئذان مثل ما عليهم. لكن خص الله الموالي بالخطاب والذكر، لأنهم هم الذين عرفت لهم الخدمة من عبيدهم.
ثم قال تعالى: { طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ }، أي: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار: طوافون عليكم: أي يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن.
وقوله: { بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }، أي: يطوف بعضكم على بعض في سوى هذه الأوقات الثلاثة.
ثم قال: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ }، أي: كما بين لكم أوقات الاستئذان كذلك يبين لكم جميع أعلامه، وأدلته { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ }، أي: ذو علم بمصالح عباده، حكيم في تدبيره إياهم.