التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٠
ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٢١
وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٢
أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
٢٣
إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ
٢٥
قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
٢٦
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٧
وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
٢٨
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
٢٩
يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٠
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٣١
-يس

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله (تعالى ذكره): { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ (يَسْعَىٰ) } إلى قوله: { إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ }.
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه: أن رجلاً من أهل أنطاكية، اسمه حبيب النجار، (كان) يعمل الجرير، وكان سقيماً (قد أسرع فيه) الجذام /، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة (قاصياً)، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه عن عمل ربه، فلما اجتمع قومه - يعني أهل أنطاكية - على قتل الرسل بلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم الله ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال لهم ما قص الله علينا.
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن اسمه حبيب وكان يعبد ربه في غار.
ويروى أنه كان نجاراً، وقيل: (إنه) كان حطاباً، لما بلغه أمر الرسل أتى مسرعاً بحزمته فآمن، وقال للناس: { يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ }.
ثم أقبل على المرسلين فقال: أتريدون مالاً نعطيكم، فقالوا: لا، فأقبل على الناس يقول: { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } فقيل له: أَفأَنْتَ تتبعهم، فقال: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي }، إلى قوله: { ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }، ثم أقبل على المرسلين فقال لهم: { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } فتألب عليه الناس فقتلوه.
قال ابن عباس: هو حبيب النجار.
ويروى أنه لما سمع بخبر الرسل جاء يسعى فقال لهم: أتطلبون (على) ما جئتم به أجراً، قالوا: لا، فأقبل على قومه فقال: { يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } إلى قوله: { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } يقول هذا للرسل.
قال قتادة: فرجمه قومه، فقال: اللهم اهد قومي، أحسبه قال: فإنهم لا يعلمون، فقتلوه رجماً، فأدخله الله الجنة، فلم ينظر الله قومه حتى أهلكهم.
روي أن جبريل صلى الله عليه وسلم وضع جناحاً في أقطارها فقلبها عليهم فبقوا خامدين ساكتين.
وعن كعب الأحبار أنه قال: الرسولان والذي جاء يسعى خُدَّ لهم أُخْدود وحرقوا بالنار فيه.
وأكثر الناس على أن الرسل كانوا من حواريي عيسى عليه السلام، تنبأهم الله بعد / عيسى، وأرسل منهم اثنين إلى أنطاكية فكذبوهما وضربوهما وحبسوهما، فقواهم الله برسول ثالث.
وقد قيل: إن الثالث شمعون، (وهو) من أصحاب عيسى، وأنه أرسل قبل الاثنين إلى أنطاكية فكذبوه، وإلى ذلك ذهب الفراء.
قال كعب ووهب: وثبوا على الذي جاء يسعى وثبة رجل واحد فقتلوه. وقوله: { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أي: على استقامة من الحق، فاهتدوا بهداهم.
ولا يحسن الوقف على "المرسلين" لأنَّ مَنْ بدل "من" المرسلين بإعادة الفعل.
وقوله: { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } (أي): وأَي شيء لي في ترك عبادة خالقي.
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: تصيرون أيها القوم.
قال ابن إسحاق على روايته عن ابن عباس وكعب ووهب: فنادى قومه بخلاف ما هم عليه وأظهر لهم دينه، وعاب آلهتهم فقال: { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ }.
أي: لا تشفع لي آلهتكم عند ربي إذا عذبني على الكفر ولا ينقذون من عذابه، ولا تدفع عني ضراً ولا تجلب إليَّ نفعاً.
ثم قال (تعالى): { إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: لفي جور عن الحق ظاهر، إن اتبعت آلهتكم وعبدتها من دون الله.
ثم قال: { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ }.
قال ابن إسحاق: هذا مخاطبة لقومه.
والمعنى: أني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي.
[وقيل بل خاطب بذلك الرسل قال لهم: اسمعوا قولي فاشهدوا لي] بما أقول لكم عند ربي، فعندما قال هذا وثبوا عليه فقتلوه.
قال ابن مسعود وابن عباس وكعب ووهب: وثبوا عليه فوطؤوه بأقدامهم على سقمه ومرضه حتى مات.
ثم قال: { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } قال هذا بعد أن قتل.
وقوله: { فَٱسْمَعُونِ } هو آخر قوله لقومه في الدنيا، وبه تم كلامه. ثم حكي الله عنه حاله في الآخرة وما قال وما قيل له بقوله: { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ }.
وقد قيل: إنه إخبار من الله عما يقال له يوم القيامة وما يقول، (أي): فلما قتلوه قيل له: ادخل، (فلما) دخلها وعاين ما أكرمه (الله به)، قال: يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي، وجعله إياي من المكرمين. (أي): فعل ذلك على إيماني، فلو عاينوا ذلك لآمنوا واستوجبوا مثل ما استوجبت.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"نَصَحَ قَوْمَهُ حَيّاً وَمَيِّتاً" .
قال قتادة: فلما دخلها، قال ذلك، فلا تلقى المؤمن إلا ناصحاً.
(فما) والفعل مصدر، ويجوز أن تكون بمعنى الذي.
ثم قال (تعالى): { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: من رسالة ولا نبي بعد قتله، قاله قتادة ومجاهد.
وعن ابن مسعود: أن المعنى: أن الله غضب لقتله غضبة فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه فلم يبعث إليهم جنوداً من السماء بعد قتله، وما كانت إلا صيحة واحدة فلم يبقَ منهم باقية قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى أهلكهم. وقوله: { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } ظاهر الكلام أن "ما" نافية.
وقال بعض أهل النظر: "ما" اسم في موضع خفض على "جند" على اللفظ، أو في موضع نصب عطف على موضع جند لأن "من" زائدة. وتقديره: وما أنزلنا على قومه من جند من السماء، وما كنا منزلين على الأمم الكافرة من نحو الحجارة والغرق والمسخ والريح وغير ذلك، إنما أخذتهم صيحة فهلكوا.
وقوله: { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي: ما كانت عقوبتهم على قتله إلا صيحة واحدة.
وقيل: التقدير: وما كانت هلكتهم إلا صيحة.
وقرأ أبو جعفر: برفع الصيحة الواحدة، على أنه اسم كان، والتقدير: إن كانت عليهم إلا صيحة واحدة.
وقيل: التقدير: إن وقعت إلا صيحة.
ومنعه أبو حاتم لأجل التأنيث الذي مع الفعل، وقال: لا يجوز: ما جاءتني إلا جارياتك وإنما يقال: ما جاءني (لأن التقدير ما جاءني) أحد. وهذا الذي منع جائز على أن يكون التقدير: ما جاءتني امرأة إلا جاريتاك.
وقول أبي حاتم أولى لأنه نفي عام فلا يضمر إلا أحد.
وفي حرف ابن مسعود: "إِنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةً واحدة" بالرفع. (وزقية) في موضع صيحة.
والمعروف في اللغة: زقا يزقو زقوة: إذا صاح، ولا يُقْرَأُ به لأنه مخالف لخط المصحف.
وقوله: { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أي: هالكون وساكتون بمنزلة الرماد الخامد.
ثم قال (تعالى): { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } أي: تعالي يا حسرة فهذا إبانك / ووقتك يَتَحَسَّرُ بِكِ العباد على أنفسهم. هذا مذهب سيبويه. ونصبت لأنها نكرة.
وقال الطبري: معناه: يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله.
وذُكِر أن في بعض القراءات: "يا حسرة على العباد على أنفسها".
روي عن قتادة: يا حسرة العباد على أنفسها ما ضيعت من أمر ربها وفرطت في جنب الله.
قال ابن عباس: "يا حسرة على العباد" معناه: يا ويلاً على العباد.
وقال أبو العالية: العباد هنا الرسل. والمعنى أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: يا حسرة على العباد، أي: على الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم، تحسروا عليهم أن يؤمنوا بهم.
ثم قال الله جل ذكره: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
وقال بعض أهل اللغة: (المعنى): يا لها حسرة على العباد. وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً، أي منقطعاً.
ثم قال (تعالى): { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ } أجاز الفراء أن تكون "كم" في موضع نصب يروا، واستدل على ذلك أن في حرف ابن مسعود: "أَلَمْ يَرَوا مَن أهلكنا".
ولا يجوز هذا عند البصريين لأن "كم" استفهام، ولا يعمل فيها ما قبلها. والعامل فيه أهلكنا، وأنها عند سيبويه بدل من كم. ورد ذلك عليه المبرد، والتقدير عنده: بأنهم.
والمعنى: الم ير هؤلاء المشركون من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم من القرون بتكذيبهم الرسل، فيخافوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، أي: ألم يعلموا ذلك.
وقرأ الحسن: "إِنَّهُم" بالكسر على الاستئناف.
{ لاَ يَرْجِعُونَ }: لا يعودون بعد موتهم وهلاكهم.