التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤
فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧
ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩
لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ
٢٠
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١
-الزمر

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } - إلى قوله - { لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }، أي: قل يا محمد لقومك: أعبد الله مخلصاً له عبادتي لا أشرك في عبادتي له، بل أفرده بالعبادة من الأنداد والشركاء.
ثم قال: { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ }، هذا تهدد أيضاً ووعيد.
والمعنى: اعبدوا ما أحببتم ستعلمون وبال عاقبة عبادتكم إذا لقيتم ربكم. وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال.
ثم قال تعالى: { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }، (أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الخاسرين في الحقيقة هم الذين خسروا) أنفسهم بإيرادهم إياها في العذاب الدائم، وخسروا أهليهم، فليس لهم أهل.
قال ابن عباس: هم الكفار، خلقهم الله للنار وخلق النار لهم، فخسروا الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس أنه قال: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجه في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله، وكذلك قال قتادة.
ثم قال تعالى ذكره: { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ }، أي: ألا إن خسارة هؤلاء المشركين (لأنفسهم وأهلهم) يوم القيامة، هو الخسران الظاهر.
ثم قال تعالى: { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي: لهؤلاء في جهنم ما يعلوهم مثل الظل، وما يسفل عنهم مثل الظل، وهو مثل قوله:
{ { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف: 41].
وقيل: هو توسع، أصل الظلة: ما كان من فوق دون ما كان من أسفل.
وقيل: إنما سمى ما تحتهم: ظلل لأنها ظلل لمن تحتها ففوقهم ظلل لهم، وهي ظلل لمن فوقهم أيضاً سميت لمن هو فوقهم ظلل لأنها ظلل لمن تحتهم.
وقيل: إنما سمي الأسفل باسم الأعلى، على نحو قوله:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] سمي المجازي به باسم الأول، كذلك سمى الأسفل باسم الأعلى على طريق المجازاة لما كان الأسفل ناراً مثل الأعلى سمي باسمه لأنه كله نار يحادي الأخرى.
ثم قال: { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ }، أي: هذا الذي أخبرتم به أيها الناس يخوّف الله به عباده ويحذرهم به.
{ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ }.
روى عصمة أن أبا عمرو أثبت الياء في "يا عبادي" ساكنة، وروى عياش بفتح الياء.
والمعنى: يا عباد فاتقون بأداء الفرائض واجتناب المحارم.
ثم قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا }، أي: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله.
وقيل: هو إبليس اللعين.
قال الأخفش: "الطاغوت جمع. ويجوز أن يكون واحدة مؤنثة" وقال الزجاج: الطاغوت: الشياطين.
ويروى أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم لما آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّقه أتاه هؤلاء فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا وصدقوا، فنزل فيهم: { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } الآية. / ونزل فيهم:
{ فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }.
قال مالك: الطاغوت: (ما يعبد) من دون الله.
ثم قال تعالى: { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ }، أي: تابوا ورجعوا عن معاصيه وأجابوا داعيه.
لهم البشرى: قال السدي: لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة.
ثم قال تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }.
روى أبو عبد الرحمن وأبو حمدون عن اليزيدي "عباديَ" بياء مفتوحة في الوصل، وبغير ياء في الوقف اتباعاً للخط، وحكى ذلك أيضاً ابن واصل عن اليزيدي، (وكذلك حكى إبراهيم بن اليزيدي (وابن سعدان) كلاهما عن اليزيدي).
ولم يذكر ابن سعدان الوقف ولا ابراهيم.
وأنكر أبو عبد الرحمن الوقف بغير ياء، وقال: لا بد من الوقف بالياء لتحركها.
وقد روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر "عباديَ" بياء مفتوحة.
ومعنى الآية: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أرشده وأهداه الى الحق وأدله على توحيد الله عز وجل والعمل بطاعته.
وقال السدي: معناه: فيتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون به.
وقال الضحاك: القول هنا: القرآن.
ومعنى: { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }، أي: يتبعون ما أمر الله به الأنبياء من طاعته فيعملون به أي: يستمعون العفو عن الظالم والعقوبة، فيتبعون العفو ويتركون العقوبة وإن كانت لهم. وإنما نزل ذلك فيما وقع في القرآن في الإباحة فيفعلون الأفضل مما أبيح لهم فيختارون العفو على القصاص والصبر على الانتقام اقتداء بقوله تعالى:
{ { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43].
وقيل: المعنى: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
ثم قال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ }، أي: وفقهم الله للرشاد وإصابة الحق { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }، أي: العقول. وَلَبُّ كل شيء: خالصه.
وروي أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحدّوا الله وتبروا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم فيما روى زيد بن أسلم: زيد بن عمرو بن نفيل وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله.
فيكون المعنى: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم وأنابوا إلى الله سبحانه، أي: رجعوا إلى توحيد الله عز وجل.
وقوله: { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }، هو: لا إله إلا الله.
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ }، أي: أرشدهم بغير كتاب ولا نبي.
وقوله: { فَبَشِّرْ عِبَادِ } تمام عند أبي حاتم وغيره، لأنه رأس آية.
ورفع "الذين" بإضمار رافع، أو بنصبهم على إضمار ناصب.
ثم قال تعالى: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ } أي: أفأنت تنقذه. ودخلت الألف في الخبر للتأكيد.
وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب يتخلص أو ينجو، أي: أفمن سبق في علم الله أنه يدخل النار ينجوا أو يتخلص.
قال قتادة معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب بكفره أفأنت يا محمد تنقذه من العذاب.
وقيل: هو جواب لقصة محذوفة، كان النبي صلى الله عليه وسلم، دعا لقوم من الكفار أن يرزقوا الإيمان. فقيل له: أفتدعو لمن حق عليه العذاب، أفأنت تنقذ من في النار.
ثم قال: { لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ }، أي: اتقوه بأداء فرائضه واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف { فَوْقِهَا غُرَفٌ }.
قال الزجاج: معناه: لهم في الجنة منازل رفيعة فوقها منازل أرفع منها.
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }، أي: من تحت أشجارها.
ثم قال تعالى: { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ }، أي: وعد الله ذلك وعداً.
وسيبوية يسميه مصدراً مؤكداً بمنزلة: صنع الله وكتاب الله.
وأجاز أبو حاتم الوقف على "الأنهار" وهو غير جائز على مذهب سيبوية لأن ما قبل "وعد" يعمل فيه لقيامه مقام العامل.
ثم قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ }، أي: أنزل من السماء مطراً فأجراه عيوناً.
قال الحسن: هو العيون، وقال الشعبي: كل عين في الأرض من السماء نزل ماؤها.
وقيل، المعنى: أنزل من السماء مطراً فأدخله في الأرض فجعله الينابيع، أي: عيوناً.
والمعنى / كالأول سواء، وواحد الينابيع ينبوع.
ثم قال { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ }، أي: يخرج بالماء أنواعاً من الزرع من بين شعير وحنطة وسمسم وأرز ونحو ذلك من الأنواع، هذا قول الطبري واختياره.
وقال غيره: معنى مختلفاً ألوانه: أخضر وأسود وأصفر وأبيض.
وقوله: { ثُمَّ يَهِـيجُ }، أي: يجف عند تمامه.
قال الأصمعي: يقال للنبات إذ تمّ، قد هاج يهيج هيجاً.
وحكى المبرد عنه: هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولّى.
وقوله: { فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً }، أي: قد يبس فصار أصفر بعد خضرته ورطوبته..
{ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً }، أي: فتاتاً، يعني: تبن الزرع والحشيش.
ثم قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }، اي: إن في فعل ذلك والقدرة عليه لتذكرة وموعظة لأصحاب العقول فيعلمون أن من قدر على ذلك لا يتعذر عليه ما شاء من إحياء الموتى وغير ذلك.