التفاسير

< >
عرض

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
-النساء

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } الآية.
قرأ الكسائي المحصنات في كل القرآن - بكسر الصاد، إلا قوله { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } قال: لأنه أراد به ذوات الأزواج من السبايا أحلهن الله بعد استبرائهن بالحيض، فالأزواج أحصنوهن، قال: وغير ذلك يكون المراد به غير التزوج، إما إحصان إسلام، أو عفة أو بلوغ، فتكون هي التي أحصنت نفسها بإسلامها أو بعفتها أو ببلوغها، ولا يحتمل عنده { وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ } إلا إحصان التزويج، وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن المسيب وغيرهم.
ومن فتح الصاد في جميع ذلك قال: إن الإسلام يحصنهن كما يحصنهن التزويج، وكذلك العفاف والبلوغ والحرية وشبهه. وحكى أصحاب أبي عمرو (أن العرب) لا تقول: هذا قاذف محصِنة، ولكن تفتح، ومن ضم "أحصن" أجراه على محصنات جعلهن مفعولات في الموضعين، فأما من فتح الهمزة، فحجته أن التفسير ورد على إضافة الإحصان إليهن، ولأن من قرأ بضم الهمزة يلزمه في الحكم ألا يوجب الحد على المملوكة إلا إذا كانت ذات زوج دون الأيم، وفي إجماع الجميع على إيجاب الحد (على) المملوكة الأيم دليل واضح على فتح الهمزة بمعنى: فإذا أحصن أي: أحصن أنفسهن بالعفاف أو بالإسلام.
والاختيار عند أهل اللغة: الضم لأنه قد تقدم ذكر إسلامهن في قوله { أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ } فدل على أن الثاني غير الإسلام فيكون أحصن بمعنى تزوجن، فالمعنى فإذا أحصنهن الأزواج، ويكون حدها إن زنت بالكتاب، وحَدَّ الأيم بالسنة، ومعنى الآية: أن الطَوْل: السعة في المال عند أكثر أهل التفسير وقال ابن زيد: الطَّول أن يجد ما ينكح به حرة.
وقال بعضهم: الطول الهوى قاله ربيعة، إذا هوى أمَتَه، وخشي على نفسه، وهو يقدر على نكاح الحرة فأرى أن ينكح الأمة. وقال جابر: لا يتزوج الحر الأمة إلا أن يخشى على نفسه العنت، فليتزوجها. وقال عطاء: لا يفعل ذو الطول إلا أن يخشى على نفسه البغي.
وأكثر الناس على أن ذا الطول لا يتزوج الأمة وإن خشي على نفسه لأن وجود الطول إلى الحرة فيه قضاء شهوة، ولذة وليس هو كالمضطر إلى الميتة، والله عز وجل قد حرم نكاح الأمة إلا لمن (لم) يجد طولاً إلى الحرة، فلا يخرج عن التحريم فيخلص لقضاء لذة، فمعناها: وإن لم يقدر أن ينكح الحرائر المؤمنات لقلة ما بيده، فلينكح الأمة المؤمنة إذا خاف العنت، فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها.
قال الشافعي وغيره: لا ينكح الأمة حتى يعدم ما يتزوج به الحرة ويخاف الزنا، فإن لم يجتمع الأمران عليه فلا يتزوج الأمة.
وإذا نكح الأمة على الحرة فإن مالكاً قال: لا يفعل فإن فعل جاز النكاح، وكانت الحرة مخيرة إن شاءت أقامت وإن شاءت اختارت نفسها. وقال الشافعي: النكاح باطل.
وقال الزهري: يفرق بينه وبين الأمة، ويعاقب.
وقال عطاء: لا ينكح الأمة على الحرة إلا بأمرها، فإن اجتمعا كان للحرة ثلثا النفقة. وكان مجاهد يقول: مما وسع الله به على هذه الأُمَة نكاح الأَمَة، واليهودية والنصرانية وإن كان هو شراً، يعني إذا خاف العنت على نفسه في الأمَّة لهوى نزل به. وقال مسروق الشعبي: نكاح الأمة لا يحل إلا لمضطر كالميتة، فإذا تزوج حرة على أمة حرمت عليه الأمة كالرجل يجد طعاماً ومعه ميتة.
والمحصنات هنا العفائف (وقيل الحرائر) وهو الأشبه لذكر المماليك بعدهن. والفتيات جمع فتاة وهن الشواب.
وقوله { مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ } يدل على أن تحريم نكاح الإماء المشركات واجب وهو محرم عند مالك وجماعة من العلماء.
قال أهل العراق: ذلك على الإرشاد، وليس بمحرم، وإنما هو ندب.
فأما نكاح الحرة على الأمة فهو جائز عند ابن المسيب وعطاء والشافعي، وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وروي عن علي رضي الله عنه جوازه، وقال: يفرض للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك والزهري: للحرة الخيار إذا علمت بذلك إن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقته.
وقال ابن عباس: نكاح الحرة طلاق الأمة، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال النخعي: يفارق الأمة إذا تزوج الحرة إلا أن يكون له من الأمة ولد، فلا يفارقها، ويكون للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك: إذا خشي على نفسه العنت يتزوج من الإماء حتى يبلغ أربعاً، وهو قول أصحاب الرأي.
وروي عن الزهري أنه قال: يتزوج أربعاً، ولم يذكر عنتاً.
وروي عن ابن عباس أنه لا يتزوج إلا واحدة، وبه قال قتادة والشافعي.
وقال أحمد: يتزوج من الإماء اثنتين لا غير.
وقوله: { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } أي: أنتم بنو آدم.
وقيل: معناه أنتم مؤمنون كلكم إخوة.
وقيل: نزل ذلك لما كانت العرب تعير ابن الأمة وتسميه هجيناً.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ } ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات "فلينكح بعضكم من بعض" هذا فتاة هذا (وهذا) فتاة هذا وعلى هذا القول مرفوعون بفعلهم في التأويل لأن المعنى { مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم } فلينكح مما ملكت فرد بعضكم على ذلك.
وقوله { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ }، أي: يعلم من آمن منكم وصدق بما جاء من عند الله عز وجل (ورسوله) صلى الله عليه وسلم. وقوله: { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي تزوجوهن بإذن مواليهن، ورضاهن { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي: أعطوهن مهورهن بالمعروف على ما تراضيتم به مما أحل الله لكم أن تجعلوه مهوراً { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ } أي: عفائف غير زناة.
{ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ } وليس ممن لهن أصدقاء على السفاح لأنهن في الجاهلية كان لهن الخليل، والصديق يحبسن أنفسهن للفجور عليه سراً، وكانوا في الجاهلية يحرمون الزنا ما ظهر منه، ويسمحون فيما أسر، يقولون: ما ظهر منه فهو لؤم، وما خفي منه فلا بأس به، فأنزل الله
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام: 151].
وقال السدي وغيره: ولا مسافحات معلنات بالزنا.
قوله: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } أي: صرن ممنوعات الفروج بالأزواج وهذا المعنى يدل على الضم في الهمزة.
وقيل: أحصن: أسلمن قاله السدي وهذا المعنى يدل على القراءة بفتح الهمزة.
وقال سالم والقاسم: إحصانها عفافها، وإسلامها. وأكثر الناس على أن المعنى فإذا تزوجن.
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ } معنى ذلك: إذا أتت الأمة بزنى بعدما أحصنت بالزوج فعليها { نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ } أي الحرائر الأبكار.
وقيل: ذوات الإسلام التي أحصنهن دينهن غير محصنات بأزواج. وقوله { مِنَ ٱلْعَذَابِ } أي: من الحد إذا زنيت.
وسميت البكر محصنة لأنه يكون بها فيما يستقبل كما يقال: ضحته قبل أن يضحي بها، وقيل: المحصنات هنا المتزوجات، فعلى الإماء المتزوجات نصف حد الحرة وهو خمسون، والرجم لا يتبعض لأن المرجوم قد يموت بحجر واحد، وربما لم يمت بألف حجر، فنصف الرجم متعذر حده، فلا بد من الرجوع إلى نصف الجلد.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا زنت الأمة فاجلدوها" . وإحصان الأمة إسلامها، وقد يجوز أن يكون معنى قوله { نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ } يعني من الأبكار لأن إحصان الحرة قد يكون العفاف، وقد يكون الإسلام، وقد يكون التزويج، ولا يحصن الأمة لا تزويج ولا غيره إلا: الإسلام.
و { ٱلْعَذَابِ } الحد غير الرجم، قال ابن عباس: على الأمة إذا زنت وهي مع حر نصف حد الحرة، وهو خمسون والمعنى فلازم لهن نصف حد الحرة.
قوله { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ } معناه ذلك الذي أبيح من نكاح الأمة لمن خشي العنت، وهو الزنا.
وقيل: هو الإثم. وقيل: العقوبة.
وقيل: الهلاك.
وأصل العنت في اللغة المشقة يقال: أكمة عنوت إذا كانت شاقة، فهذا يدل على جواز نكاح الإماء إنما يكون باجتماع الشرطين المذكورين، وهما: عدم الطول، وخوف العنت وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا ينبغي للحر أن يتزوج أمة وهو يجد الطول إلى الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر.
قوله: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: عن نكاح الإماء خير لكم { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } أي: غفور لكم عن نكاحهن على ما نصه لكم، وأذن لكم فيه قال ذلك السدي وابن عباس وطاوس وغيرهم.
قوله: { رَّحِيمٌ } أي: رحيم بكم إذ أذن لكم في نكاحهن عند الاقتدار وعدم الطول للحرة.