التفاسير

< >
عرض

قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١٤
قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
١١٥
-المائدة

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا } الآية.
قوله: { تَكُونُ لَنَا }: حال بمعنى: كائنة. وقرأ الأعمش (تكُن) جعله للطلب.
وقرأ الجحدري: (لأولانا وأُخرانا).
فالمعنى: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً لما ولمن بعدنا.
وقيل: معناه: نأكل منها جميعاً، قاله ابن عباس.
(و) روي أن عيسى عليه السلام قام فلبس الشعر، وكان يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل، فلبس جبة من شعر ورداء من شعر، ووضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره، ثم صف (بين) قدميه، فألصق الكعب بالكعب، وساوى الإبهام بالإبهام، وطأطأ رأسه خاشعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فبكى حتى سالت الدموع على لحيته، فجعلت تقطر على صدره، فقال: { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ }، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي مُنْقَضّة وعيسى صلوات الله عليه يبكي ويقول: اللهم اجعلني لك من الشاكرين، إلهي اجعلها رحمة ولا تَجعلها عذاباً، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني، إلهي أعوذ بك من أن تكون أنزلتها غضباً وزجراً، اللهم اجعلها عافية وسلامة ولا تجعلها مثلة ولا فتنة حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحاً طيباً، لم يجدوا مثلها قط، وخرّ عيسى ساجداً والحواريون معه، وبلغ اليهود ذلك، فأقبلوا غماً وكيداً ينظرون أمراً عجيباً، وإذا منديلٌ قد غطى السفرة، وجاء عيسى عليه السلام، فجلس وقال: من كان أَجرأَنا وأَوثَقَنا بنفسه، وأحسَنَنا يقيناً عند ربنا، فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل ونسمي اسم ربنا ونحمد إلهنا. فقال { ٱلْحَوَارِيُّونَ }: أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته / . فئوضاء عيسى وضؤاً جيداً، وصلى صلاة طويلة، ودعا دعاءً كثيراً، وبكى بكاءً طويلاً، ثم قام حتى جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين، وكشف المنديل، فإذا سمكة طرية مشوية، ليس عليها قشورها، وليس لها شوك، وتسيل سيلاً من الدسم، قدم نُضِّد حولها البقول ما خلا الكراث، وإذا خلٌّ عند رأسها، وملح عند ذنبها، وسبعة أرغفة، على كل واحد منها زيت، وعلى سائرها حَبَّ رمان وتمر، فقال شمعون رأس الحواريين -: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، (أم من) طعام الآخرة؟، فقال عيسى صلى الله عليه: أو ما نُهيتم عن تفتيش المائدة؟، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا. فقال (شمعون): لا وإله إسرائيل، ما أردت سوءاً (يابن) الصديقة. قال عيسى: نزلت وما عليها من السماء شيء، وليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها: شيء ابتدعه الله بالقدرة الغالبة، قال (له الله): "كن"، فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمددكم ويزدكم. قالوا: يا روح الله وكلمته، لو أَرَيْتَنا اليوم آية من هذه الآية. فقال عيسى: احْيَِيْ بإذن الله، فاضطربت السمكة حية (طرية)، تدور عيناها في رأسها، ولها وبيص تتلمط بفيها كما يتلمط الأسد، وعاد عليها قشورها، ففزع القوم، فقال عيسى: ما لكم تسألون عن أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها، ما أخوفني عليكم (أن تُعذَّبوا)، يا سمكةُ عودي كما كنت بإذن الله، فعادت السمكة مشوية كما كانت، ليس عليها قشور بإذن الله. فقالوا: كن أنت - يا روح الله - الذي يأكل منها أول مرة، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها من طلبها وسألها، ففَرِق الحواريون من أن يكون نزولها سخطاً ومثلة، فلم يأكلوا منها، فدعا عيسى أهل الفاقة والزَّمانة من العميان والمجذومين والبُرْص والمُقْعدين والمجانين وأصحاب الماء الأصفر، فقال لهم: كلوا من رزق ربكم، وادعوه يزدكم، إنه ربكم واحمدوه يكن المُهْنَأ لكم، والبلاء لغيركم، واذكروا اسم الله وكلوا. ففعلوا وصدروا عن تلك السمكة والأرغفة وهم ألف وثلاث مائة بين رجل وأمرأة، (و) من بين فقير وجائع وزَمِن، فصدروا كلهم شباعاً يَتَجَشَّؤون، فنظر عيسى صلى الله عليه فإذا المائدة كهيئتها إذ نزلت من السماء، فرفعت السفرة وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، فلم يزل غنياً حتى مات، وبرأ كل زَمِن أكل منها، وقدم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها. ثم كانت تنزل بعد ذلك، فيأتي الناس إليها من كل مكان، فزاحم بعضهم بعضاً: الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والأصحاء والمرضى، فلما رأى (ذلك عيسى) جعلها نُوَباً بينهم، فكانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً، كناقة صالح في الشرب، فأقاموا بذلك أربعين صباحاً تنزل عليهم ضحاً، فلا تزال موضوعة حتى إذا (فاء الفيء) طارت صاعدة ينظرون / إلى ظلها حتى تتوارى عنهم، وأوحى الله عز وجل إلى عيسى (أن) اجْعل مائدتي ورزقي في اليتامى والزَّمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك، أعظمت (ذلك) الأغنياء، فادعت القبيح حتى شككوا الناس وشكوا، فوقعت الفتنة في قلوب الشاكين، حتى قال قائلهم: يا مسيح، وإن المائدة لحق؟، (و) إنها لتنزل من عند الله؟، فقال عيسى: ويلكم هلكتم، (فأبشروا) (بالعذاب) إلا أن يرحم الله. فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ شرطي من الكذابين، وقد اشترطت عليهم أن أعذب من كفر منهم بعد نزولها (عذاباً) لا أعذبه أحداً من العالمين. فقال عيسى: (رب)
{ { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 118]، فمسخ الله جل ذكره ثلاثة وثلاثين رجلاً منهم خنازير من ليلتهم، فأصبحوا يأكلون العذرة والخشوش، وأصبح الناس يطوفون بعيسى (فزعاً ورهباً من عقوبة الله، وعيسى) يبكي، وأهلوهم يبكون معه، وجاءت الخنازير تسعى على عيسى حين أبصرته، فأطافوا به ينظرون إليه، ويشمّون ريحه، ويسجدون له، وأعينهم تسيل دموعاً لا يستطيعون الكلام، فقام عيسى يناديهم بأسمائهم: "يا فلان"، فيومئ إليه برأسه: "نعم"، فيقول" قد كنت أحذركم عذاب الله، وكأني كنت انظر: إليكم قد مُثّل بكم في غير صوركم.
قال وهب بن منبه: كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف، فقال رؤساء القوم لقوم من ضعفائهم: إن هؤلاء يُلطّخون علينا ثيابنا، فلو بنينا (لها بناء) يرفعها. فبنوا لها دكاناً، فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله رفعها عنهم.
قال ابن عباس: أكل منها آخرهم كما أكل أولهم، فكانت لجميعهم عيداً.
وقوله: { وَآيَةً مِّنْكَْ }: (أي آية) على قدرتك، وعلى أني رسولك. ونزلت عليهم وعليها حوت وطعام، فأكلوا (منها)، ثم رفعت لأحداث أحدثوها.
(وقيل): كان في المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.
قال ابن عباس: نزلت المائدة مرتين وعنه: نزلت مراراً. وقال سلمان كذلك. وقيل: وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً.
قال الحسن: لما قال الله { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } قالوا: لا حاجة لنا إليها فلم تنزل. قال الفراء: نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرتين: غدوة وعشية، فلذلك اتخذوه عيداً.
وعن ابن عباس أنه قال: كانوا يأكلون منها أينما نزلوا إذا شاءوا.
وقال وهب بن منبه: نزلت عليهم قرصة من شعير وأحوات. وقال مجاهد: هو طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا. وقال إسحاق بن عبد الله: نزلت على عيسى سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها متى شاءوا. قال فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً (فرفعت). وروي عن ابن عباس أنه قال: أُنزل على المائدة كل شيء غير اللحم. قال قتادة: لما صنعوا في المائدة ما صنعوا من الخيانة، حُوِّلوا خنازير، وكانوا أمروا ألا يخونوا ولا (يخبئوا ولا يدخروا)، فخانوا وخبؤوا وادخروا.
(و) روى عمار / عن النبي عليه السلام أنه قال:
"نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا و (رفعوا لغد)، فمسخوا قردة وخنازير" .
قال عمار بن ياسر: لم يتم يومهم حتى خانوا وادخروا ورفعوا.
وروي عن عمار بن ياسر أنه قال: كان عليها ثمر من ثمار الجنة.
قال مجاهد: إنما هو مثل ضربه الله لينتهوا عن مسألة النبي، ولم ينزل الله عليهم شيئا. وقيل: لما قيل لهم: { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } الآية، استعفوا، فلم ينزل عليهم شيء، قال ذلك الحسن. وقال مجاهد: أبوا ذلك حين عرض عليهم العذاب.
والذي عليه أكثر العلماء أن الله أنزلها عليهم، لقوله { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ }، ولا يجوز أن يخبر أنه ينزلها، ثم لا ينزلها.
ومعنى { مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ }: من عالمي زمانكم.
وكان نزول المائدة يوم الأحد، فلذلك اتخذوه عيداً.
والعذاب الذي أُوعِدوا به، قيل: هو متأخر إلى الآخرة. وقيل إنَّهم عُجِّل لهم ذلك في الدنيا بأنهم مسخوا قردة وخنازير.
وروي أن المائدة لما نزلت عليهم فرقوا أن تكون عقوبة وسخطاً، فقالوا: يا روح الله، كن أنت أول من يأكل منها، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، ولكن يأكل منها الذين طلبوها. فلم يأكلوا منها خوفاً أن تكون سخطاً عليهم، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والحاجة والزمنى والعمي والبرص، وكل مَن به داء، فقال لهم: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واذكروا اسم الله. فأكلوا حتى شبعوا وهم ألف وثلاث مائة، قاله سليمان.
وقال مقاتل: كانوا خمسين ألفاً، وأفاقوا من كل دائهم.