التفاسير

< >
عرض

يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }، إلى قوله: { خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }.
والمعنى: إن تتقوا الله في أداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم: { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }، أي: فَصْلاً. وفرْقاً بين حقكم وباطل مَنْ يبغيكم السوء، { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }، أي: يمحها، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ }. أي: يستتر لكم على ذنوبكم، { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }، عليكم وعلى غيركم.
وقيل: { فُرْقَاناً }: مخرجاً.
وقيل: نجاةً.
وقيل: نصراً.
وقال ابن زيد معناه: يفرق في قلوبكم بين الحق والباطل حتى تعرفوه.
وقال مجاهد: مخرجاً من الضيق إلى السعة، ومن الباطل إلى الحق.
قوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، الآية.
المعنى: واذكر، يا محمد، إذ يمكر.
وهذه الآية تذكير للنبي صلى الله عليه وسلم، بنعم الله عز وجل عليه، و { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: هم مشركو قريش.
قال [ابن عباس] معنى { لِيُثْبِتُوكَ }، أي: ليُوثِقُوك وليثقفوك.
وكذلك قال مجاهد: وقتادة. وذلك بمكة.
وقال السدي: { لِيُثْبِتُوكَ }: ليحبسوك ويوثقوك.
وقال ابن زيد، وابن جريج: ليحبسوك.
وقال ابن عباس: اجتمع نَفَرٌ من قريش من أشرافهم، في دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأَوْهُ قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نَجْد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولَنْ يَعْدَمَكم منِّي رأيٌ ونُصْحٌ. قالوا: أجَل، ادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في أمر هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثَاق. ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء. فصرخ عدو الله الشيخ النَّجدي وقال: والله، ما هذا لكم بِرأْي، والله ليخرجنه رأيه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، / فما آمنُ أنْ يخرجوكم من بلادكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا برأي، ألمْ تروا حلاوةَ قوله ولطافةَ لسانه، وأخْذَ القلوب لما يُسْمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ليستعرضن وليجمعن عليكم، ثم ليأتينَّ إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق، قال أبو جهل: والله لأشيرنَّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً وسيطاً شاباً، ثم نعطي كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا أظُنّ هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش، وإنَّهم إذا رأوا ذلك قَبِلوا العقل واسترحنا. فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأيُ، القول ما قال الفتى، فتفرقوا على ذلك، وأتى جبريل (النبيَّ) صلى الله عليه وسلم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، ثم أمره بالخروج، فأنزل الله عليه بالمدينة: "الأنفال" يذكره نِعَمه عليه في قوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ }، الآية. فأنزل في قولهم "نتربص به حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء":
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [الطور: 30].
وكان يسمى ذلك اليوم الذي اجتمعوا فيه "يوم الزحمة".
ولما أجمعوا على ذلك باتوا يحرسونه ليوقعوا به بالغداة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إلى الغار، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، عليّاً أنْ يبيت في موضعه، فتوهم المشركون أنه [النبي] صلى الله عليه وسلم، فباتوا يحرسونه، فلما أصبح وجَدوا عليًّا، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فركبوا وراءه كل صعب وذلول يطلبونه، ومَرُّوا بالغار قد نسج على فمه العنكبوت، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فيه ثلاثاً.
"ويُرْوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعليّ: نَمْ على فراشي وتَسَجَّ بِبُرْدي هذا الحَضْرَمي؛ فإنه لن يخلص إليك شيءٌ تكرهه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل وأصحابه على الباب، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، حَفْنَة من تُراب، وأخذ الله بأبصارهم فلا يرونه، فجعل يثير التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: { يسۤ }، إلى قوله: { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } فلم يبق منهم رجلٌ إلا وضع النبي صلى الله عليه وسلم، على رأسه تراباً، وانصرف إلى حيث أراد، فآتاهم آتٍ فأعلمهم بحالهم، فوضع كُلُّ رجل منهم يده على رأسه فوجد تُراباً، فانصرفوا بِخِزْي وَذُلٍّ" .