قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ }، إلى [قوله]: { مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }.
قوله: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ }.
{ وَٱلَّذِينَ }: في موضع رفع عطف على الضمير في: "يأكلون"، فيكون التقدير: { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ }، ويأكلها معهم الذين يكنزون الذهب.
وقيل: { ٱلَّذِينَ }: في موضع رفع بالابتداء.
ومعنى الآية: يا أيها الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، إن كثيراً من أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم، وهم: علماؤهم وعبادهم. وقيل { ٱلأَحْبَارِ }: القراء: { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ }، ويأكلها معهم { ٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ }، وذلك الرُّشى في الحكم، وفي تحريف كتاب الله عز وجل، يكتبون بأيديهم كتباً، ويقولون: هذا من عبد الله، يأخذون بها ثمناً قليلاً، { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }، أي: يمنعون من أراد الدخول في الإسلام.
و "الكَنْزُ": كل مَالٍ وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤَدَّ زكاته.
وقوله: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا }.
أي: لا يؤدون زكاتها.
قال ابن عمر: كل ما مَالٍ أُدِّيتُ زكاته ليس بكنز، وإن كان مدفوناً، وكلُّ مالٍ لم تُؤدّ زكاته، فهو كنز يكوى [به] صاحبه، وإن لم يكن مدفوناً.
ورُوي عن علي رضي الله عنه: أربعة آلاف درهم فما دونها "نفقة" / فإن زادت فهو "كنز"، أدّيت زكاته أو لم تُؤد.
قال ابن عباس: هي خاصة للمسلمين لمن لم يؤدِّ زكاته منهم، وهي عامة في أهل الكتاب، من أدى الزكاة ومن لم يؤدِّ؛ لأنهم لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا.
وقال عمر بن عبد العزيز: أراها مَنْسوخَةً بقوله: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة: 103].
و "الكنْزُ" في كلام العرب: كل شيء جُمع بعضُه إلى بَعْضٍ.
قوله: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا }.
ولم يقل: "يُنفقونهما"، إنما ذلك لأن الضمير رجع على الكنوز، والكنوز تشتمل على الذهب والفضة.
وقيل: إن الضمير يرجع على: "الأموال" التي تقدم ذكرها أنها تؤكل بالباطل.
وقيل: الضمير يعود على: "الفضة"، وحذف العائد على الذهب لدلالة الكلام عليه، كأنه قال: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } و "يُنفقونه"، ثم حذف كما قال:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنتَ بِمَا عِنْدكَ رَاضٍ....
وقيل الضمير: "للذهب"، وضمير "الفضة" محذوف، تقديره: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } و "يُنفقونها"، والعرب تقول: "هي الذهب [الحمراء]"، فتؤنث.
وقال معاوية: هذه الآية في أهل الكتاب خاصة.
وقوله: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
أي: اجعل موضع البشارة لهم عذاباً أليماً، أي: مؤلماً، بمعنى مُوجع.
وليس { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }، بتمام؛ لأن { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا }، منصوب بـ: { أَلِيمٍ }.
و (الضمير في { عَلَيْهَا }، فيه من الوجوه، ما في: { يُنفِقُونَهَا }، وكذلك الضمير في { بِهَا }.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن عَبْدٍ لا يُؤدّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا أُتِي بِهِ وبماله فأحمى عليه في نار جهنم، فتكوى بها جنباه وجبهته وظهره، حتى يحكم الله بين عباده" .
وقال ابن عباس: { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا }، قال حَيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، تقول: أنا مالك الذي بخلت به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن ترك بعده كنزاً مَثَلَ له يوم القيامة شُجاعاً أَقْرَع له زَبِيبَتَانِ، يتبعه فيقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلم يزل يتبعه حتى يُلْقِمَه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده" .