التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠٩
حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١١٠
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١١١
-يوسف

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } أيها المبعوث للكل { إِلاَّ رِجَالاً } مثلك من جنس البشر { نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } أي: نخصهم بالوحي والإلهام؛ لنجابة طينتهم في أصل خلقتهم مع أنهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } أي: من جملة ما يسكنون فيها { أَ } يصرون هؤلاء المعاندون على تكذيبك، معللين بقولهم الباطل: ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { فَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ } كذبوا الرسل المبعوثين لهم مضوا { مِن قَبْلِهِمْ } مثل تكذيبهم إياك حتى يعتبروا منها { وَ } الله { لَدَارُ ٱلآخِرَةِ } المعدة للفوز والفلاح { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } أي: للمؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عما حذرهم الله منها { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يوسف: 109] أيها المسرفون المكابرون.
وإن تمادوا في الغفلة والإصرار على التكذيب مدة مديدة { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ } وقنط { ٱلرُّسُلُ } المبعوثون إليهم بل { وَظَنُّوۤاْ } من طول الإمهال وعدم الأخذ والبطش { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } يقيناً، وصاروا كأنهم قد أخلف عنهم الوعد الذي وُعدوا به من جانب الحق، وبعدما أزداد بأسهم وقنوطهم، وقد جاءهم نصرنا الذي وعدناهم وعذابنا الذي قد أوعدنا به أممهم، وبعدما جاء أخذنا إياهم { فَنُجِّيَ } ونخلص { مَن نَّشَآءُ } إيمانه بنا وبرسلنا وانقياده إياهم { وَ } بالجملة: { لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } الذي قد وعدنا به { عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } [يوسف: 110] الذين أجرموا علينا بتكذيب رسلنا وكتبنا، وإن طالت مدة الإمهال.
بثم قال سبحانه تنبيهاً وحثاً لعباده على ما في كتابه من الإشارات { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ } أي: قصص الأنبياء المذكورين في القرآن سيما قصة يوسف عليه السلام { عِبْرَةٌ } اعتبار واستبصار { لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } الذين يتأملون ويتعمقون في لب الكلام، ويعرضون عن قشوره؛ { مَا كَانَ } القرآن ما ذكر فيه من القصص والأحكام { حَدِيثاً } مختلفاً { يُفْتَرَىٰ } به إلى الله افتراءً ومراءً { وَلَـٰكِن } وحي نزل من عند الله ليكون { تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب الإلهية، أي: مصدقاً أحكامها وآثارها { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } احتيج إليه في الدين من الأمور المتعلقة؛ لتهذيب الظاهر والباطن { وَهُدًى } من تمسك به وعمل بما فيه أمن من اضلال { وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111] أي: يعلمونه ويصدقون بمقتضاه.
خاتمة السورة
عليك أيها المستبصر، الخبير المسترشد، البصير - بصَّرك الله بعيوب نفسك، وجنبك عن غوائلها - أن تعتبر من القصة التي ذكرت في هذه السورة، وتحترز عن المكائد المذكورة فيها والمخادعات المصرحة بها والمرموزة إليها، وتصفي أمارة نفسك عن مبادئها وتبرئها حسب طاقتك وقدر وسعد وطاقتك وقوتك عما يؤول إليها ويؤدي نحوها، وتشمر ذيل همتك لتهذيب ظاهرك وباطنك عما يعوقك عن سلوك طريق التوحيد المفضي إلى اضمحلال الرسوم وانقهار التعينات العدمية الأظلال الهالكة، المؤدية إلى الكثرة والتنويه، الحاجبة عن صرافة الوحدة الذاتية بالنسبة إلى ذوي الحجب الكثيفة والغشاوة الغليظة.
وعليك أن تتوجه بوجه قلبك إلى إفناء لوازم تعيناتك الباطلة، وهوياتك العاطلة التي هي شياطين طريقك نحو الحق المنزه عن التغيير والتبديل، المقدس عن الانقلاب والتحويل؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يفتره كر الدهور ومر الزمان، بل
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: 29]، و { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26].
وبالجملة: بعدما فنيت عن وجوه تعيناتك رأساً ، يبقى وجه ربك الذي لا انقلاب له أصلاً ذو الجلال الذاتي والأزلي، والإكرامم الأبدي السرمدي.
جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق الفناء، ووفقهم لإفناء ما يعقوهم عن شرف اللقاء، إنه سميع مجيب.