التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٩٦
قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ
٩٧
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٩٨
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ
٩٩
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
١٠٠
-يوسف

تفسير الجيلاني

{ فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ } وهو يهوذا مع القميص { أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ } على الوجه المأمور { فَٱرْتَدَّ } أي: عاد ورد فجأة { بَصِيراً } كما كان في سالف الزمان، فشكر الله وحمده، وسجد له سجدة خضوع وخشوع وتذلل تام، ثم رفع رأسه من سجوده { قَالَ } لبنيه ولحضار مجلسه: { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } حين لمتوني بالأسف والحزن وكثرة المناجاة مع الله لملاقاة يوسف { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ } كرم { ٱللَّهِ } وسعة جوده ورحمته { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 96] أنتم أيها اللائمون.
ثم لما سر يعقوب عليه السلام وخلص من الشدائد والمحن وقر عيناه { قَالُواْ } أي: بنوه منادين له متضرعين إليه: { يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ } التي كنا نعمل معك ومع من أحببته واخترته علينا { إِنَّا كُنَّا } فعلنا من الجرائم العظام والمعاصي والآثام { خَاطِئِينَ } [يوسف: 97] جاهلين عن عواقبها وما يؤول إليها؛ إذ هو من قضاء الله إيَّانا ولا مرد لقضائه.
ثم لما تفرس يعقوب عليه السلام منهم الإخلاص والإنابة التامة والرجوع عن ظهر القلب { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ } في ذاته { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ } لذنوب عباده بعدما أخلصوا { ٱلرَّحِيمُ } [يوسف: 98] لهم يقبل توبتهم.
سوَّف أمر استغفارهم إلى ملاقاة يوسف والمشورة معه، يدل عليه ما رُوي أن يعقوب استقبل القبلة قائماً يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبري عليه السلام، فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في حق أبنائك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة.
ثم لما صمموا عز الرحيل إلى مصر شدوا ركابهم، وساروا حتى وصلوا إلى قربها، سمع يوسف بقدومهم، وخرج إلى استقبالهم مع الملك وجنوده وجميع أهل مصر { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ } ووصلوا إليه { آوَىٰ إِلَيْهِ } أي: اعتنق وضم يوسف { أَبَوَيْهِ } إلى نفسه وواسا معهما { وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف: 99] عن نكبات الجدب والقحط وآذيات الرحيل.
{ وَ } بعدما دخلوا على بيته { رَفَعَ أَبَوَيْهِ } تعظيماً لهما وتوقيراً { عَلَى ٱلْعَرْشِ } الذي يجلس هو عليه، وهو يقوم بين يديهما { وَ } بعدما تمكن أبوأه على عرشه { خَرُّواْ } أي: هما وبنوهما { لَهُ سُجَّدَاً } أي: خرجوا لشكر لقياه وشرف حضوره لله سجود شكر وخضوع.
ولما رأى يوسف سجودهم تذكر ما رأى في المناقم في أوان الصبا { وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } في سالف الزمان { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } صدقاً محققاً مطابقاً للواقع { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ } ربي بأنواع الإحسانات { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } بعدما كانت فيه مدة مديدة { وَ } أعظم منه أنه { جَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ } أي: البادية البعيدة { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ } وأوقع { ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } بأنواع الإيقاعات والوساوس { إِنَّ رَبِّي } الذي رباني بأنواع اللطف والكرم { لَطِيفٌ } مدبر كامل وموفق كافل { لِّمَا يَشَآءُ } من الأمور ويريد إصلاحه { إِنَّهُ } بذاته { هُوَ ٱلْعَلِيمُ } بعلمه الحضوري لمصالح عباده { ٱلْحَكِيمُ } [يوسف: 100] المتقن في أفعاله على مقتضى ما تعلق بعلمه وإرادته.