التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
٣٩
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً
٤٠
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً
٤١
قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً
٤٢
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
٤٣
تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
٤٤
وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً
٤٥
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً
٤٦
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً
٤٧
ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
٤٨
وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
٤٩
-الإسراء

تفسير الجيلاني

{ ذَلِكَ } المذكور من الأحكام المتقدمة، مِنْ أول السورة إلى هنا { مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ } يا أكمل الرسل تربيتةً لك، وتأييداً لأمرك { مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } المتقنة التي يجب الامتثال والانصاف بها على من أراد سلوك سبيل التوحيد، المبنيِّ على عدالة الأخلاق والأطوار والشئون { وَ } معظم المنهيات والمحظورات: الشرك بالله. العياذ بالله منه. لذلك كرره تأكيداً ومبالغةً، وبالغ في الاحتراز عنه حبيبه، حيث قال: { لاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ } المتوحد المتفرد في ذاته، المعبود بالحق والاستحقاق { إِلَـٰهاً آخَرَ } يعبد له كعبادته، وإن اتخذتَ إليهاً سواه { فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ } البعد والخذلان، حال كونك { مَلُوماً } تلوم نفسك بأنواع الملومات بما ضاع عنك من التوحيد المنجي عن جميع المضائق والمهالك { مَّدْحُوراً } [الإسراء: 39] مبعدً عن رحمة الله، وسعة فضله وإحسانه.
{ أَ } تزعمون أيها المشركون المستكبرون أن الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء فضَّلكم على نفسه { فَأَصْفَاكُمْ } أي: خصصكم واجتباكم { رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ } الذين هم أكرم الأولاد وأشرفها { وَٱتَّخَذَ } لنفسه أولاداً { مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً } نواقص عقلاً وديناً { إِنَّكُمْ } أيها المسرفون بإقدامكم واجترائكم على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة { لَتَقُولُونَ } في حق الله { قَوْلاً عَظِيماً } [الإسراء: 40] بهتاناً وزوراً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
إذ نسبة الأولاد إلى الصمد المنزه عن الأنداد في نهاية الشناعة والفساد، وأشنعُ منه نسبة الإناث إليه، ثمَّ نسبة الملائكة الذين هم من أفضل عباد الله وأشرفهم إلى الأنوثة المستحقرة المذمومة شرعاً وعقلاً، هذا مع غاية الإفراط في حق الله، والتفريط في خلَّص عباده؛ لذلك وصف سبحانه هذا القول الشنيع بالعظمة.
ثمَّ قال سبحانه توبيخاً لهم وتقريعاً، وإشارةً إلى تناهيهم في الضلال والطغيان: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } وكررنا مراراً شناعةَ هذا القول؛ أي: نسبة الولد إلى الله الصمد المنزه في ذاته عن الأهل والولد { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } المنزل لهداية أهل الغي والضلال { لِيَذَّكَّرُواْ } أي: ليتذكروا ويتعظوا، ويتفطنوا إلى وخامة عواقبه ومآله، ومع ذلك لم يتذكروا ولم يتفطنوا، بل { وَمَا يَزِيدُهُمْ } التكرار والمبالغة { إِلاَّ نُفُوراً } [الإسراء: 41] إعراضاً عن الحق، وإصراراً على ما عليه من الباطل.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل إلزاماً وتبكيتاً: { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ } أمثاله { كَمَا يَقُولُونَ } وتدَّعون أيها المشركون، هم معبودون بالحق، مستحقون للعبادة كما زعمتم { إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ } ولطلبوا { إِلَىٰ } معاداة { ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42] ليغلبوا عليه، ويستولوا على ملكه، كما يفعل الولاة بعضهم مع بعض؛ إذ لو عجزوا عن مماراته ومقابلته، لم يكونوا مثله، فلم يستحقوةا للعبادة المطلقة مثله.
{ سُبْحَانَهُ } أي: نزه سبحانه ذاته تنزيهاً بليغاً، وقدس تقديساً متناهياً في القدس والنزاهة { وَتَعَالَىٰ } أي: تَرفَّع وتعاظم { عَمَّا يَقُولُونَ } هؤلاء الظالمون، المسرفون المفرطون في شأنه من إثبات الشريك المماثل له، والكفء المتكافىء معه { عُلُوّاً كَبِيراً } [الإسراء: 43] أي: تعالياً وتباعداً في غاية البعد والاستحالة؛ إذ لا موجود سواه، ولا إله غيره.
كيف تغفلون وتذهلون عن دلائل توحيده الحق وشواهده أيها الضالون المضلون، مع أنكم مجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد، ومع ذلك { تُسَبِّحُ لَهُ } وتُقدّس ذاته عن الشريك والولد، والكفء والنظير { ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ } المطبقة المعلقة المنضودة، المنظومة على أبلغ النظام وأعجبه، مع ما فيها من الكواكب المختلفة الألوان والأشكال، والمنازل والحركات والآثار المترتبة عليها، ومع ما فيها من عجائب المخلوقات، وغرائب المبدعات والمخترعات التي لا علم لنا إلاَّ بأنياتها دون لمياتها، كل ذلك يدل على وحدة مظهرها وبارئها { وَٱلأَرْضُ } وما عليها من أنواع النباتات والمعادن والحيوانات التي عجزت عن إحصائها ألسنة أولي البصائر والنهى، المعتبرين المتأملين في مصنوعات الحق، وعجائب مخترعاته { وَمَن فِيهِنَّ } من الملائكة والثقلين المجبولين على عبادة الحق وعرفانه.
{ وَ } بالجملة: { إِن مِّن شَيْءٍ } أي: ما من شيء مما يطلق عليه اسم الشيء، ويمتد عليه ظلُّ الوجود { إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي: ينزهه ويقدسه عن شوب الحدوث والإمكان، بعضها بالحال، وبعضها بالمقال، سيما عن أقوى أمارات الإمكان التي هي الإيلاد والاستيلاد.
{ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ } تفهمون أيها المنهمكون في الغيِّ والضلال { تَسْبِيحَهُمْ } لعدم اشتغالكم بالتدبر والتأمل في مصنوعات الحق، والتفكر في آياته، بل تنكرونها وتصرون على القدح فيها عناداً ومكابرةً، وتشركون بالله. العياذ بالله منه. أنداداً وبذلك استوجبتم أشدَّ العذاب والنكال، فأمهلكم الله { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً } لا يعاجل بالانتقام والعقوبة رجاءَ أن تتعظوا وترجعوا نحوه بالتوبة والندم على وجه الإخلاص، فيغفر زلتكم كلها، إنه كان { غَفُوراً } [الإسراء: 44] للأوَّابين التوابين، الرجَّاعين إليه بكمال الندم والإخلاص، وإن عظمت زلتهم، وثرت معصيتهم.
{ وَ } من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل، وغاية حفظنا وحراستنا إياك { إِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ } واستغرقت في لجج رموزه وإشاراته، وخضتَ ي تيار بحاره لِطَلَبِ فرائد فوائده، وصرتَ من غاية استغراقك وتلذذك بها إلى أن غبتَ عن محافظة نفسك، ومراقبة حالك { جَعَلْنَا } وصيرنا { بَيْنَكَ وَبَيْنَ } القوم { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ولا يوقنون بالأمور المترتبة عليها فيها { حِجَاباً } غليظاً، وغشاءً كثيفاً { مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45] بسترك عن أعين أعدائك، القاصدين لك سوءاً، مع أنهم لا يرون الحجب أيضاً.
روى سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه لما نزلت:
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] جاءت امرأته بحجرٍ لترضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه، فسألت: أين صاحبك، لقد بلغني أنه هجاني؟ فقال أبو بكر: ما نطق صاحبي بالشعر، ثمَّ قال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله، فقال: صلى الله عليه سلم "لَمْ يَزَلْ مَلَكٌ بَيْنِيْ وَبَيْنَ أَعْدَائِيْ، أَنَا أَرَاهُمْ وَلاْ يَرَوْنَنِيْ" .
{ وَ } كيف لا يكون الكافر محجوباً مستوراً عن سرائر القرآن ومرموزاته؛ إذ { جَعَلْنَا } أي: غطَّينا { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } غشاوةً كثيفةً تمنعهم { أَن يَفْقَهُوهُ } ويفهموا معناه { وَ } جعلنا { فِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } أي: حمماً وثقلاً، يمنعهم عن استماع ألفاظه حتى يتأملوا ويتدبروا في معناه { وَ } من غلظ غشاوتهم، وكثافة أكنتهم { إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ } منفرداً، بلا ذكر آلهتهم { وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ } معرضين كارهين { نُفُوراً } [الإسراء: 46] متنفرين ساخطين عليك؟!.
ولا تبال يا أكمل الرسل بهم، وبسماعهمه واستماعهم وعدمه، ولا تلتفت نحوهم؛ إذ { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي: يفرضون المتعلق باستماعهم الذي هو الاستهزاء والسخرية، وقت { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ } كيف لا يكونون مستهزئين مستسخرين { إِذْ هُمْ } حين استماعهم كلامك { نَجْوَىٰ } أي: ذوو مناجاة، يضمرون في نفوسهم مقتك وهلاكك، وأقله الاستهزاء معك؟! اذكر { إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ } منهم على سبيل العناد والمكابرة لأهل العدل والتوحيد: { إِن تَتَّبِعُونَ } أي: ما تتبعون أيها الضالون { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [الإسراء: 47] سحر به فجن، فاختلط كلامه، وذهب عقله، وتكلم من تلقاء نفسه كلاماً يشبه كلام العقلاء.
{ ٱنْظُرْ } أيها الناظر بنور الله، المؤيَّد من عنده { كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } الحشو والبتراء من غاية اضطرابهم وتهالكهم، مرةً يقولون: إنك شاعرٌ، ومرةً: ساحرٌ، ومرةً: كاهنٌ، ومرةً: مجنونُ { فَضَلُّواْ } عن طريق الحق في جميع ما نسبوا إليك، وإلى ما جئت به من الكلام المعجز في أعلى مراتب الإعجاز { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ } إلى مقتلك وقدح كتابك { سَبِيلاً } [الإسراء: 48] واضحاً موجهاً، بل خبطوا في جميع ما نسبوا خبط عشوا، فضلّوا عن السبيل السواء.
{ وَ } من غاية انهماكهم في الغيّ والضلال، ونهاية إنكارهم بحقية القرآن { قَالُوۤاْ } مستبعدين متعجبين على سبيل التهكم والاستهزاء { أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً } أي: أنبعث ونُحيي بعدما صرنا عظاماً باليةً رميمةً { وَرُفَاتاً } أي: غباراً مرفوتاً، تذروه الرياح { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } محشورون من قبورنا { خَلْقاً } آخر { جَدِيداً } [الإسراء: 49] معاداً للخلق الأول، لا مثلاً له، بل عيناً، بلا مغايرة أصلاً، كلاَّ وحاشا، من أين لنا هذا؟!.