التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٢٤٣
وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٤٤
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٤٥
-البقرة

تفسير الجيلاني

{ أَلَمْ تَرَ } أيها الرائي { إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ } وهم أهل "داود" قرية قبل "واسط" وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين { وَهُمْ أُلُوفٌ } كثيير { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ } بعدما علم منهم الفرار عن قضائه: { مُوتُواْ } فماتوا بالمرة { ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ } بدعاء حزقيل عليه السلام حين مر على تلك القرية، فأبصروا قد عريت عظامهم وتفرقت أجسامهم فتعجب من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه، ناد فيهم: أن قوموا بأمر الله ومشيئته، فنادى فقاموا يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت { إِنَّ ٱللَّهَ } المدبر لمصالح عباده { لَذُو فَضْلٍ } وإحسان { عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [البقرة: 243] فضله وإحسانه.
وبوجه آخر { أَلَمْ تَرَ } أيها المغتر الرائي { إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ } المألوفة المأنوسة وهي بقعة الإمكان { وَ } الحال أنهم { هُمْ أُلُوفٌ } متألفون فيها مع بني نوعهم { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } الإرادي { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ } الهادي إلى توحيد الذات بلسان مرشديهم: { مُوتُواْ } عن إنابتكم وهويتكم أيها المتوجهون إلى بحر الحقيقة، فماتوا عن مقتضيات القوى البشرية، ولوازم الحياة الطبيعية بالكلية { ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ } الله بالحياة الحقيقية والعلم اللدني والوجود العيني الحقي، والبقاء الأزلي السرمدي { إِنَّ ٱللَّهَ } المتكفل لأمور عباده { لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } الناسين منزلهم الأصلي ومقصدهم الحقيقي بإيصالهم إلى ما هم عليه قبل نزولهم إلى فضاء الإمكان { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [البقرة: 243] ولا يعقلون ولا يفهمون نعمة الوصول إلى الموطن الأصلي والمقام الحقيقي حتى يقوموا بشكره ويتواظبوا عليه.
{ وَ } إن أردتم أيها المؤمنون أن تكونوا من الشاكرين لنعمه الفائزين بفضله وإحسانه { قَٰتِلُواْ } مع الكفرة التي هي القوى الحيوانية { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } المفني للغير مطلقاً، واعلموا إن متم فإلى الله تحشرون، وإن عشتم فإلى الله تبعثون، وما لكم أيها المؤمنون ألاَّ تقاتلوا مع جنود الشياطين حتى تنجوا من مهلكة الإمكان، وتصلوا إلى فضاء الوجوب { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لأقوالكم المتعلقة بعدم الجهاد { عَلِيمٌ } [البقرة: 244] بنياتكم المترتبة على الحياة الطبيعية.
{ مَّن ذَا } العارف { ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ } أي: يفوض ويسلم هوية الإمكان وماهية الكوني والكياني إلى الله المسقط للهويات مطلقاً { قَرْضاً حَسَناً } تفويضاً سلساً نشطاً فرحاناً بلا مضايقة ولا مماطلة، راضياً بما قضى عليه، صابراً على عموم البلوى المقربة إليه { فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ } بعدما فني عن هيوته فيه { أَضْعَافاً كَثِيرَةً } لا يحيط بكنهها إلا هو؛ إذ المحدث قرن بالعديم، وترتب عليه ما ترتب عليه بل سقط الاثنينية بالكلية، وارتفع غيار الأغيار بالمرة { وَٱللَّهُ } الواحد الأحد الصمد { يَقْبِضُ } إلى ذاته ما ينشر { وَيَبْسُطُ } كم أظلال أسمائه وصفاته وآثار تجلياته الذاتية { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره { تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245] أيها الأظلال والآثار طوعاً وكرهاً.