التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
٢٧
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٨
-البقرة

تفسير الجيلاني

ثم لما طعن الكفار في غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم نفوسهم، واعتقادهم الأصالة في الوجود، والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهراً على الكتاب، والرسول المنزل عليه قائلين بأن ما جئت به وسميته وحياً نازلاً إليك من عند الله الحكيم لا يدل على كلام من يعتد به ويعتمد عليه، فضلاً عن أن يدل على أنه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة؛ لأن ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة، مثل الكلب والحمار والذباب والنمل والنحل والعنكبوت وغيرها، والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثار لا يصدر من الكبير المتعال؟!
رد الله عليهم وروج أمر نبيه - صلوات الله عليه - فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ } المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء، المقتضية لظواهر الكائنات، المرتبة لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت، كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق، وسريان الروح في جميع الأعضاء { لاَ يَسْتَحْى } استحياء من في فعله ضعف وعافية وضيعة، بل الله سبحانة { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } بمظهر { مَّا } من المظاهر غير المتفاوتة في المظهرية؛ إذ له بذاته من جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا إضافة، فلا تفاوت في المظاهر عنده، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، وسواء كانت { بَعُوضَةً } مستحقرة عندكم أو أحقر منها { فَمَا فَوْقَهَا } في الحقارة والخساسة كالبق والنمل، فلا يبالي الله في تمثيلها؛ إذ عند الكل على السواء { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ } صدقوا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم و{ آمَنُواْ } بما جاء به من عند ربه { فَيَعْلَمُونَ } علماً يقيناً أن التمثيل بهذه الأمثال { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } الثابت الصادر { مِن رَّبِّهِمْ } الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه.
{ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أعرضوا عن تصديق الله ورسوله { فَيَقُولُونَ } مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } المقدس عن جميع الرذائل المتصف بالأوصاف الحميدة { بِهَـٰذَا } الحقير الخسيس بأن يضرب { مَثَلاً } بهذا تعريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ وجه؛ يعني: ما جئت به من عندك كلمات مفتريات بعضها فوق بعض، أسندته إلى الله لتروجها على أولي الأحلام الضعيفة، ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضي لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله، ولم يعلموا أنه { يُضِلُّ } الله باسمه المنتقم { بِهِ } بسبب إنكار هذا المثال { كَثِيراً } من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في المظاهر إلا الله، ففي هذا المشهد لا يسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار، بل سقط هناك جميع الاعتبار، ثم بيَّن سبب إضلاله له فقال: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } [البقرة: 26].
{ ٱلَّذِينَ } يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر { يَنقُضُونَ } يفصمون { عَهْدَ ٱللَّهِ } الذي هو حبله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات سيما { مِن بَعْدِ } توكيده بذكر { مِيثَٰقِهِ } الموثق بقوله:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، وقولهم: { بَلَىٰ } [الأعراف: 172] وبعدما نقضوا العهد الوثيق الذي من شأنه ألاَّ ينقضِ لم يفزعوا ولم يتوجهوا إلى جبره ووصله، بل { وَيَقْطَعُونَ } التوجه عن امتثال { مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ } في كتابه المنزل { أَن يُوصَلَ } به ما نقض من عهده، ومع ذلك لا يقنعون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم، بل { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ } بأنواع الفسادات السارية من إفسادٍ واعتقاد الضعفاء، والبغض مع العرفاء الأنساء - وفي نسخة أخرى: ا لأمناء - والمخالفة مع الأنبياء والأولياء { أُولَـۤئِكَ } البعداء عن طريق التوحيد { هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } [البقرة: 27] المقصورون على الخسران الكلي الذي لا خسران فوقه، أعاذنا الله من ذلك.
ثم استفهم سبحانه مخاطباً لهم، مستبعداً عما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكاً لحمية الفطرة التي فطر الناس عليها، وتذكيراً لهم بالعهود التي عهدوا مع الله في استعدادتهم الأصلية بقوله:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ } وتشركون { بِٱللَّهِ } الذي قدر وجودكم في علمه السابق أراد إيجادكم { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } أظهركم من العدم بمد ظله عليكم، وبعدما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الأولى بأنواع النعم؛ لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها { ثُمَّ } بعد تربيتكم في النعم { يُمِيتُكُمْ } يخرجكم من النشأة الأولى إظهاراً لقدرته وقهره { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أيضاً في النشأة الأخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الأولى { ثُمَّ } بعدما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل { إِلَيْهِ } لا إلى غيره من الأظلال { تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28] إذ لا وجود للغير ليرجع إليه، فلا مرجع إلا هو ولا مآب بسواه، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.