التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٠
وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
-البقرة

تفسير الجيلاني

{ هُوَ ٱلَّذِي } جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته، وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه و{ خَلَقَ لَكُمْ } أي: قدر ودبر لكم { مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } ما في العالم السفلي من آثار الأسماء والصفات تتميماً لجسمانيتكم؛ لتتصرفوا فيها وتتنعموا بها متى شئتم { ثُمَّ } لما تم تقدير ما في العالم السفلي ترقى عنها و{ ٱسْتَوَىٰ } توجه { إِلَى ٱلسَّمَآءِ } إلى تقدير جميع ما في العالم العلوي { فَسَوَّٰهُنَّ } فهيأهن { سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } مطبقات مشتملات على ملائكةٍ ذوي علومٍ ومعاملاتٍ، وعلى كواكب ذوي آثارٍ كثيرةٍ كلها من مقتضيات أسمائه وصفاته { وَ } لا يخفى عليه شيء مما في العالمين؛ إذ { هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } البقرة: 29] لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم لما قدر لنوع الإنسان جميع ما في العالم العلوي والسفلي أشار إلى اصطفاء شخصٍ من هذا النوع وانتخابه من بين الأشخاص؛ ليكون مظهراً جامعاً لائقاً لأمر الخلافة والنيات، فقال مخاطباً لنبيه، مذكراً له، مستحضراً إياه بقوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } أي: استحضر أنت يا أكمل الرسل فذكر ممن تبعك وقت قول ربك { لِلْمَلَٰئِكَةِ } الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله، لا يظهر عليهم أثر من آثار الجلال والقهر { إِنِّي } أريد أن أطالع ذاتي وألاحظ أسمائي وأوصافي على التفصيل، فأنا { جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ } أي: العالم السفلي { خَلِيفَةً } مرآة مجلوة عن صداء الإمكان ورين التعلق؛ لأتجلى منها بجميع أوصافي وأسمائي حتى تعتدل خليفتي بأسمائي أخلاق من عليها وتصلح أحوالهم، وإذا شاور معهم قالوا في الجواب على مقتضى علمهم { قَالُواْ } في الجواب على مقتضى علمهم من العالم السفلي الذي هو عالم الكون والفساد ومنزل الجدال والعناد: ما نرى في العالم السفلي إلا اللدد والعناد والمخاصمة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبي الذراري { أَ } ن سلم ونجوز لك أن { تَجْعَلُ } بعزتك وكبريائك مع أنا ننزهك عن جميع الرذائل خليفة لك نائباً عنك { فِيهَا } في الأرض { مَن يُفْسِدُ فِيهَا } بأنواع الفسادات { وَ } خصوصاً { يَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } المحرمة، وليس في وسعنا هذا التسليم، ولا نرى هذا الأمر لائقاً بجلالك وعصمتك، وإن شئت بفضلك وجودك أن تصلح بينهم { وَ } تدبر أمرهم { نَحْنُ } أولى بإصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك الموضوعة فيهم؛ إذ { نُسَبِّحُ } نشتغل دائماً { بِحَمْدِكَ } وثنائك على آلائك ونعمائك { وَنُقَدِّسُ } به { لَكَ } أي: ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأعراض فنحن أولى بأمر الخلافة والنيابة منه { قَالَ } تعالى بلسان الجمع في جوابهم؛ إرشاداً لهم وامتناناً لآدم: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ } من آدم الذي هو مظهر ذاتي وجميع أسمائي { مَا } أي: شيء من الجامعية { لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] أنتم لعدم جميعتكم.
ثم لما ادعى سبحانه استحقاقه للنيابة ولياقته للخلافة، وأجاب عن شبههم التي أوردوها إجمالاً وأشار إلى تفصيل ما أجمل عليهم إرشاداً لهم على مرتبة الجمع، وتنبيهاً على جلالة قدر المظهر الجامع فقال: { وَعَلَّمَ ءَادَمَ } سبحانه؛ أي: ذكره { ٱلأَسْمَآءَ } التي أودعها في ذاته وأوجد بها ما في العالم من الآثار البديعة { كُلَّهَا } بحيث لا يبقى من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء إلا ما استأثر به في غيبه { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق { عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ } الذين يدعون الأولوية في أمر الخلافة { فَقَالَ } تعالى لهم مخاطباً على سبيل الإسكات والتبكيت: { أَنْبِئُونِي } عن روية وبصيرة { بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } المسميات، وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات { إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } [البقرة: 31] في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة، محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله.
{ قَالُواْ } مستوحشين من هذه الكلمات، معتذرين متذليين خائفين من عتابه تعالى، متذكرين عن سوء الأدب مع الله، مستحيين عن سؤالهم من فعله الذي لا يسأل عنه قائلين: { سُبْحَٰنَكَ } ننزهك من أن يعترض عليك ويسأل عن فعلك، ذلك الحكم في ملكوتك والتصرف في مقتضيات أسمائك، وإنما بسطنا معك الكلام لا لانبساطك بنا؛ إذ { لاَ عِلْمَ لَنَآ } منها { إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } بقدر استعداداتنا وقابلياتنا { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ } بجميع الاستعدادات والقابليات { ٱلْحَكِيمُ } [البقرة: 32] بإقامته ما ينبغي لمن ينبغي بلا عللٍ واعتراضٍ.